«الحمدي الأعمى الشعري» بين التجنيس والوعي
في متابعات ورؤى،مجلة نزوى
إن الوصول إلى تمثيل حالة حياة لم يعشها الفرد تجربة حادثة في الواقع صعب جدا إن لم يكن محالا، مع هذا يمكن أن يحدث اقتراب من تلك الحياة، لذا تتراوح نسب النجاح في ملامسة التجربة من واحد لآخر، الإبداع الأصيل مقرون بالخبرة والدربة، إن لم تكن التجربة أساسا لهما، لذا فإن كل ما يقوم به كاتب لم يعش التجربة في بعديها الداخلي والخارجي تظل كتابة يعتريها النقص دائما، حتى في ظل عيش التجربة، إن النقص شرط دائم في عمل الإنسان..
في تجربة إبراهيم سعيد خمسة إصدارات، بدأها نشرا بـ«معمار الماء» عام 2006، ليأتي بعده «سحر الكلام» الصادر قبل عامين، بعدهما في العامين الفائتين يصدر « موسيقى الشمس.. أغاني الجنة» ثم « الحمدي الأعمى الشعري»، وأخيرا كان له قهوة الله قبل أسبوعين..
في تعداد ما مررت عليه سريعا رأيت إبراهيم محددا للقارئ هوية الجنس الذي يكتبه، لكن هذا ما لم يحدثه مع قارئه في آخر إصدارين، لعله بخياره هذا يترك بعض قرائه في حيرة تجنيس؛ قد يبدو أن لديه رغبة ً في إشراكهم حيرته إن كان قد احتار في تجنيس ما قد نشر؛ محددين هم أنفسهم هوية الجنس الأدبي الذي انتهوا من قراءته، فقارئ عمله» الحمدي الأعمى الشعري» قد يرى أنه كان بالإمكان أن يكون هذا النص رواية، عموما هو نص إلى السرد أقرب، وهو بهذا يقترب إلى أن يكون نصا سرديا طويلا، لعله يبدو كذلك؛ بدليل أن مختبر السرديات يدعونا جميعا لملامسة النص في أبعاده الجمالية، نحن هنا جميعا نحاول معرفة نص «الحمدي الأعمى الشعري» مقتربين منه في ساعتنا المشتركة هذه التي تجمعا هنا.
منذ الوهلة الأولى ترى عين القارئ في غلاف الكتاب اسما، في الغالب تظهر الأسماء بصفتها عناوين في الأعمال النثرية أكثر من ظهورها عناوين لنصوص شعرية، خاصة في الأدب الحديث في ظل تقدم السرد وتعمقه في الحياة الثقافية، لكن هذا لا يعني أن قد لا نجد أسماء في أغلفة نصوص شعرية، إن كان هذا ليس دقيقا فإن العلم المتصدر للعنوان لعله منذ أول وهلة يستحضر في ذهن قارئ ألِفَ القراءة أحد أهم عناصر العمل السردي، ألا وهو الشخصية، فلا سرد ولا حكاية إلا بالشخصية راوية ً أم مرويا عنها الحكاية، وبهذا فإن الحمدي بصفته عنوانا لم يخبر بعده الكاتب عن ما ابتدأ به، إنما ينعته باسم آخر وهو «الأعمى الشعري» كما لو أن هناك محاولة أخرى مقصودة لإضافة ما قد يراه آخر أنه عنوان فرعي، خاصة إذا ما تذكرنا – الآن إن كان الكتاب عنا بعيدا- أن نعتَ «الأعمى الشعري» لم يكن في ذات السطر، وإنما في سطر آخر، أسفل الاسم الأول وهو» الحمدي» مبتدأ به.
بهذا فإن عين القارئ يجذبها العلم المتشكل من الاسم؛ ليكون لقبا قادما من اسم الشخصية الرئيسة في النص، نرى رسم اللقب في الغلاف بحبر، ظهر كما لو أنه واهن وضعيف، وبه إن طابقنا بما في النص لعلنا قد نرجِّحُ أن الشخصية روائيا غير مكتملة داخل النص، وليدٌ لم ينضج بعد، خدجا وصل إلينا، لعله لا يعيش حياة أخرى، كما أنه قد يعيش، نحن إذن من سيكمل أيامه وشهوره الناقصة بالاقتراب منه، وهو بالرسم الذي رأت به أعيننا حروفه عكس رسم الصفة التي ألحقت به، إذ أن رسم صفة «الأعمى الشعري» تلحظها العين برؤية مغايرة ومختلفة، لكن السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن حول الصفة الثانية؛ لنتأمل قائلين هل هي للأعمى؟ أم للنص؟
يأتي هذا السؤال بعد اتضاح موصوف الصفة الأولى، والتي هي نعت للحمدي لقبا، حمد اسما، هذا ما يأتي عليه النص في اشتغاله على بيان عديد الأفعال والأقوال، تلك التي يحتفي بها فعل السرد في بسطه للحكاية، خاصة في الجزء الأول، وهو « نور على المبتدأ»، و عناوين عديدة من الجزء الثاني، وهو « الخروج والدخول في المتاهة»، ثم بعدها يبدأ النص رحلته مشتغلا على تصورات أخرى في حياة الأعمى « حمد/ الحمدي/» بلغة هي أقرب للاستعارة والمجاز، بهما شيَّد الكاتب صورا تنحت من الرؤية الفكرية بعدا شعريا في اشتغاله على الصوفي لغة ً تعود إلى الداخل عمقا وصدى، وهذا عكس ما كان في بداية النص، إذ أن تأويل الحكاية في استعادة الراوي لها نقلا عن الشيخ الأعمى، ذاك الذي لم نقرأ روايته عبر صوته الخاص، وإنما عبر راو آخر، بدا صوته أقرب إلى المؤلف برؤيته الخاصة لحياة الأعمى من خلال رسم عالم حكائي ظل يسرد حكايات المبصرين مع الأعمى، وفي سرد حكاية الأعمى مع المبصرين كنا نقرأ ما يمكن أن نقول عنه إنه نقد لحياة المبصر من خلال ما فتته السرد من قضايا ومشاكل اجتماعية كانت تكشف وتعرِّي واقعا مؤلما يعيش فيه المبصرون أيامهم، بهذا كما لو أن النص يؤكد أن مشاكل البشر تأتي من المبصرين.
منذ بداية النص نقرأ أبعاد حكاية متوالية عبر السند عن شيخ يروي لفتية حياة عن أعمى، ظهر في النص كما لو أنه ليس كالعميان الذين نلتقيهم في حياتنا، فهو من « أولئك الذين تختارهم الأقدار كل ألف عام» وهو بهذه الميزة كما رأته الحكاية» رمزا للمبصرين، وعلامة للمكفوفين» كما يذهب الراوي الناقل حكاية الشيخ الأعمى عن الحمدي بأسئلة تبث هنا وهناك في سرد الحكاية..
أعود سائلا عن موصوف الصفة الثانية، وهي « الشعري» كما في العنوان، أين موصوفها؟ هل النص بوصفه عملا شعريا، أم أنها صفة للحمدي موصوفا؟
من هنا يواصل العنوان بث قلق للقارئ، فهل نحن بصفتنا قراء لهذا العمل نقف إزاء عمل هجين، تتداخل فيه الأجناس وتلتقي، عبر رؤية خاصة أرادها المؤلف أن تكون هكذا، واعتمدها لتكون اشتغالا ممنهجا؛ اشتغالا لم تألفه الذائقة القرائية، خاصة من قبل ما عودنا عليه مؤلف هذا العمل في ظل ما قرأنا له من كتابات نشرها قبل عمله هذا» الحمدي الأعمى الشعري»، لعله بهذا النص يفتتح مشروعه الخاص إذن، أقول هذا خاصة إذا ما تذكرت الآن كتابه الأخير «قهوة الله»، وبهذا فإنه قد يواصل مشروعه عبر كتابة نص ينحت من واقعه مثل ما يستحضر ثقافته القرائية مشكلا بهما نصا جديدا يدع حضورا فيه للقارئ عبر ما تشيده و تنشده كتابة يذهب إليها إبراهيم سعيد، لعله يسعى إلى تدشين عهد جديد في تجريب كتابة قصيدة النثر.
هنا قد أذكِّرُ أن معرفة قارئ ما بالنصوص وبتجنيسها معرفة « تقريبية»، أظن أن من حق القارئ على الكاتب وصف نصه وتجنيس نوعه، وهذا ما لم يذهب إليه الكاتب ومن خلفه الناشر كذلك..
من هذا الذي ذهبت إليه أرجِّح أن أمرا كهذا لن يكون مصادفة، إنما القصد فيه ومنه كان مرادا ومبتغًى؛ تمهيدا للنص الذي أتت به اللغة مشكلة إياه من وعيين، وعي الفكر الثقافي، وهذا ظاهر جلي واضح في تشكل هذا النص؛ بدءا من خلق خطابات موازية باتجاه خطاب النص الرئيس عبر ما تقدم من تمهيد لعناوين الكتاب، فيما يمكن أن أشير إليها بعناوين رئيسة، وأخرى فرعية، غلب عليها السرد، وقبلها هناك توطئتان بعد الإهداء الذي في الكتاب، مرورا بما قرأناه في عنواني» في البدء» و « صلاة»، تتقاطع كل تلك الخطابات القصيرة مع النص الرئيس قادمة من قراءات المؤلف.
أما عن الوعي الثاني فهو وعي بالواقع الحياتي هذا الذي يلجأ إليه الواحد منا إذا ما أراد الكتابة، وهذا ما ذهب إليه النص في بدايته، قبل توغله في الذي أراده إبراهيم سعيد وسعى إليه في آخر عنوانين من النص، وهما « متاهة النور الروحانية» مؤكدا في آخر عنوان لكتابه أن « الأعمى يواصل حكايته».
إن هذين الوعيين اللذين شكلهما النص تنازعهما راويان اثنان كذلك، أحدهما يمكن قراءته في صورة الأنا راويا كما لو أنه الأعمى مقنعا» بالبصيرة الشعرية1» والآخر في صورة «الهو» ناظرا للعمق الداخلي، أو نابذا العالم الذي لا يمكن أن يتعامل معه إلا عبر الصوت؛ ليصير الأعمى في النص منظورا إليه عبر الآخر، وناظرا عبر الذات الراوية أحيانا…
إذن في النص حكايات تتوالد واحدة بعد الأخرى عبر سند لم يظهر إلا في مفتتح النص، وختمته، وبهذا الشكل الكتابي فإن جهدا معتمدا في بناء النص يأخذ الحكاية إلى زمن ماض وفائت وبعيد، وبهذا فإن إمكانية قراءة النص وتقبّله على أنه نسيج حكايات متداخلة ومترابطة في محاولة سعي حثيثة على أن يصير لهذا النص قيمة وجودة، ليس بوجود الأعمى وحده، وإنما من خلال شخصيات أخرى كانت حاضرة في صف بناء الحكاية من خلال استبدال شخصيات المبصرين، تلك التي اختارها الكاتب بعناية تنتصر في رمزيتها للضد في حياة الأعمى، من خلال اختيار رمز للبصر والبصيرة عند بدر/ بدرية/ شامس/ شمسة/ أمر كهذا الاختيار المقصود لم يكن من نصيب أسماء الشخصيات فقط، بل حتى الأمكنة في دلالة تسميتها ترتبط بالنور( مستشفي النور/ مسجد النور/ مدرسة النور/ جمعية النور للمكفوفين/ شارع النور).
كل هذا الاختيار ظل يحاول صنع حياة مغايرة لحياة الأعمى، تلك التي عاشها بالبصر، رائيا بالصوت، وبالبصيرة مستمتعا بما يقرأ له الآخرون عبر الصوت كذلك.
يمكن لقارئ ما أن يقبل الشخصيات على أنها إحالية إلى واقع مكاني وزماني، هذا ما سعت إليه أحداث عديدة مؤكدة واقعيته، عدا شخصية نور فإنها تجسدت وتشكلت في النص من صوت، من حدث كهذا ولدت في النص شخصية نور، هنا نقرأ ما يؤكد هذا « الصوت الذي جمع جوقات العصافير، وعطر الأشجار، وحفيف الأوراق، وترقرق مياه السواقي في صوت واحد لم يزد كلمة أخرى مباشرة، فيما ظل الحمدي يردد رنين ذلك الصوت في ذاكرته، ويكرر رد التحية، متخيلا الصوت كأنه صوت الزمان والمكان مجتمعين في موجة اللحظة التي تكلمت في إدراكه. وحين تحرك من مكانه سمع الصوت قربه من جديد:
-هات يدك لأقودك» ص13
صوت يصير شخصا مبصرا!؟ ليتشكل نص مختلف عن حياة الأعمى، نص يهدف إلى تصوير عالم لا تراه العينان، من الحلم الممزوج باليقظة تُصيِّرُ اللغةُ الصوت شخصا، وبهذا ليس أمامنا إلا قبول الحدث، وهو حدث مهم في النص، لعل قارئا يتقبل حدوثه في ظل اندماجه لتتبع حياة الأعمى بالسرد، وبالحوار أحيانا كما هو بين الحمدي ونور مثلا، مع ما في النص من أحداث أخرى، من بينها «طلب أبناء العمومة للأعمى» « وانزعاجه إثر خروجه من بيت أحدهم»، وهو بعد انزعاجه يقرر ترك مكانه الأول، لتبدأ معه رحلة التيه التي قرأناها في مقاطع مختلفة تحت عنوان «الخروج والدخول في المتاهة».
إن الشخصية التي شكلها صوت من الطبيعة هي شخصية في خيال الكاتب، وفي حلم الأعمى، أظن ليس أمامك إلا أن تعتبر شخصية نور هكذا، ففي حدث تشكله سعت اللغة إلى إعلاء الحلم، فذهب النص بالحدث هذا في سرد حواريته بين الحمدي ونور مسائلا من خلال الراوي حدث تشكل شخصية نور من الصوت، وبهذا فإن حدثا كهذا فيه من الأسئلة ما فيه، فهل الشخصية منتمية لعالم الشخصيات في واقعيتها وخيالها؟ ونحن في هذا نقرأ للراوي أن الأعمى في حلمه « كان يسمع صوت نور يصف له العالم المرئي بصوته، يترجم له العالم إلى أصوات ص28 ».
في العلاقة بين الشخصيتين المختلفتين شكلا وحياة يفتح النص عبر راويه فكرة تسائل تشكل تلك الحياة/ حياة المبصر المرافق للأعمى في المكان وخارجه حتى لحظة وداعهما ف»هل كان نور مجرد خيال ووهم؟ كل ذلك؟! هل يريد الناس أن يقنعونه بأنه كان يتخيل كل ذلك؟ حقا؟! ص35» والنص يذهب تاركا القارئ في حيرة، إذ يرى الواقع في هذا الحدث ما هو إلا وهم، لا وجود له، وبهذا ليس لنا إلا الإشارة أن هذا النص في حدثه لعله إلى حدِّ ما يحيل إلى السريالية.
ليس هذا هو الأمر الوحيد الذي يدع قارئا أن يصف أن ما في النص هو أقرب إلى السريالية، وإنما هناك أفكار أخرى، منها ما استفاد منه النص في تناصه مع ما في المقدس الديني، فبإعادة تكرار فعل» اقرأ» في متاهة « النور والروحانية» تلك التي قرأنا فيها أمرا من المعلمة للأعمى، في مطالبتها له بالقراءة، حيث» همست له اقرأ؟! تعجب الأعمى متسائلا إن كانت المعلمة نفسها عمياء، سألها كيف أقرأ وأنا أعمى؟ همست له مجددا اقرأ؟ رد عليها واللوح في يده: أنا لا أستطيع أن أرى الألواح فكيف أقرأ؟ لكنه لمح من جهة الألواح نورا ضئيلا، فوجه إليه عينيه وانبهر من نور الكلمات الذي يسيل في الحروف الدقيقة، كان النور يجري في خطوط الكلمات ويضيء لعينيه في اللوح، كانت الكلمات مرئية لعينيه، أما باقي اللوح فغارق في الظلام، همست له مجددا: اقرأ، فانطلق صوته مترددا بانبهار ومستمتعا بقوة جهورية».
ما في الأسطر السابقة متعالق ومتناص مع حكاية «اقرأ»، لكن الحدث في هذا النص متشكل من اللاواقع، من الحلم معليا من خيالات الأعمى، السير خلف المعلمة هو سير خلف الخيال.
حاولتْ هذه القراءة أن تنظر إلى النص من زاوية تسائل ما شكله من وعيين، حاول بهما إبراهيم سعيد أن يكتب نصا عن أعمى لا يلد الزمن له شبيها، فقط هو واحد في كل ألفية، ويبدو أن أعمى إبراهيم سعيد آخر العميان الذين جاءوا إلى الدنيا بالحياة التي قرأناها في « الحمدي الأعمى الشعري».
1 – إبراهيم سعيد، سحر الكلام، كتاب نزوى، ط1، 2012، ص 90
حمود حمد الشكيلي / كاتب من عُمان