«صلاة» عبد الله السبب أنطولوجيا ما تبقّى من صُحبة عصية التواري
إنهم شعراء وقد رحلوا، شعراء إمارة رأس الخيمة وضواحيها، عاشوا ملء الزمان حتى أراقت اللحظة المباغتة وجودهم صوب الـ (هناك) المفارق، عاشوا المكوث، ومن ثم الانتقال إلى ما بعده، بحيث أصبحوا، بين ليلة وضحاها، في مكوث مختلف ليس لنا، وعبد الله السبب منّا، إلاّ أن نستيقظ على أثرهم وصحبتهم التي مرت دون أي استسلام للعدم المطلق، وذلك لا يكون إلاّ وفق حوار ثر أو قل (حوارية) ذات أداء تواصلي مختلف، فقد كان أولئك الشعراء ماء لكنهم استحالوا إلى رغوة إثر عصية الغياب، وبذلك فهم ما تبقّى أو لنقل إنهم بقية وجود لا يعدو أن يكون همزة وصل بيننا، ذلك (الوجود) الذي يساوي (الهُم) أو يوميات تلك الصُحبة الوجودية يستعيدها الشاعر عبد الله محمَّد السبب في ديوانه الرثائي الفريد في هندسته النصية (صلاة) ليس بعيداً عن ذاته كونه منهم في أكثر من معنى ودلالة وقصد، وفي كل ذلك طعم مختلف، فأنْ يرثي الشاعر نظيره المُصاحب له وجوداً يومياً معناه أن يرثي الوجود قوامه الأصيل أنى له أن يمكث أو يتوارى بوصفه ما تبقّى.
ولعل عتبة نصية واحدة استهل بها عبد الله السبب (رأس الخيمة 1965) كينونة ديوانه النصية تكفي لقول فتنة وجودية ما بلغة راثية: «إلى رفاق قصيدتي في ذكراهم: خليفة محمد خليفة، جمعة الفيروز، علي العندل، أحمد راشد ثاني»، إنهم رباعية ما تبقّى وحواره العميق مع موجودات بشرية خلاقة توارت جسداً وبقيت أثراً وذكرى، إنهم ما تبقّى من شعراء قصيدة عصية الغياب.
في أنطولوجيا الرثاء يحف بنا الشاعر النظير عبد الله السبب صوب عوالم قلق الرحيل وتعب الفراق منطلقاً من نص عتبي لـ (كوز مو نكهوس) جاء فيه: «وهكذا، يجب أن نفترق يا جسدي، بعد أن اتفقنا سنوات طويلة، وإنه لمنَ المحزن أن تنتهي صحبتنا». وهذا وحده يمنحنا دفء الانضمام إلى معترك ما سيأتي نحو تسريد (المثوى) كعنوان مكاني نحو ستة مقاطع شعرية مكثفة جاءت تحت عنوان (قبورنا) ما يؤكِّد حسية الرحيل البشري وأثر ما تبقّى.
تحت عنوان «سفر» تأخذنا ذائقة عبد الله السبب إلى عوالم رحيل الشاعر خليفة محمد خليفة الذي يخاطبه بـ «أيها الأنتَ.. يا قِبلة الشِّعر.. يا قُبلة المطر»، بل ويترجيه ألاّ يغادر موجودية اللحظة، والمخاطبة بـ «يا» تبدو ملفوظاً شعرياً يتكرر مراراً، فثمة «حلم لم ترتده بيارق الغثيان».
إلى جمعة الفيروز الذي يخاطبه السبب برونق دافئ الطية: «هكذا رأيناه كما لم نر أحداً من قبل، ألفناه كما لم نألف أحداً من قبل، خبرناه كما لم نخبر أحداً من قبل، فقدناه كما لم نفقد أحداً من قبل» ليرحل الفيروز في لحظة حزينة: «حتى تعثر في نومه… ومات.. هكذا دونما حيلة، دونما حول»! مذكراً عبد الله السبب بكل أنطولوجيا كانت متاحة لفها وجود الفيروز في حله وترحاله حتى لحظات مواراة جثته ذلك اللحد الرملي البارد.
إلى علي العندل، الشاعر الذاهب إلى حتف غير متوقَّع، تأخذنا تلابيب القراءة الرثائية حيث الجرار قاحلة، والينابيع ضامرة، وأشجار يأكلها الهجير، وصخور مسامير ليال نائمة، لكنها المرايا ساطعة، لذا يرتجي السبب شاعره الراحل الذي يصفه بـ «سقراط» ألاّ ينام، ودلالة (سقراط) هنا ذات أثر يرتبط بتخصص العندل بدراسة الفلسفة في جامعة الإمارات مطلع ثمانينيات القرن العشرين.
وتحت عنوان «دعابة أليفة» ينساب قول الشاعر السبب إلى تجربة أحمد راشد ثاني الذي كان رحيله باكراً كما غيره من شعراء موضوع الحالة في هذا الديوان، فالطيور وقد طارت بأرزاقها، وإنك يا أحمد راشد ثاني، يقول عبد الله السبب: «الطائر الذي طار منذ طائرين طريين: جمعة الفيروز وعلي العندل».
بالفعل، إنها صلاة الشاعر على رحيل نظرائه أرادها عبد الله السبب تمضي في طريق مختلف ليس بعيداً عن ذاته لكي يحقق أصالة ذاته المنخرطة في ذوات الآخرين أو ذوات الـ (هُم)، ولهذا كانت قصائد الديوان رثائية وجودية تحث الخطى بأن تكون أنطولوجيا أكثر منها مجرّد رثاء عابر على ما مضى، فعبد الله السبب الشاعر يسترد وجود أولئك الشعراء الأربعة عبر موجودية ذاته وقد عاشت حيواتهم يومياً بحيث لم تتمكن ذاته، ذات عبد السبب، الفرار بعيداً عن أثر أولئك الشعراء.