الشعر… المكان ونبض المطلق لا تفارق النمذجة المكانية, مسألة البناء، بناء المكان.

p03fl8pr

العدد الثامن والسبعون، مجلة نزوى

المكان علامة مائزة ودالة على الإنسان في دروب انشقاقاته وانعماقاته بأسئلة الوجود ودلالات الإنسان في الوقت ذاته؛ ذلك أن علاقة هذا الأخير بالمكان تتجاوز حدود «الإقامة السالبة» نحو «التأثر المتبادل» الذي يصل ما بين الطرفين معا وفي إطار من «الثقافة» التي تظل «المختبر»، الأوحد، والمتفرد، لتشكلات الإنسان في ولاداته المسترسلة طالما أن هذا الأخير  لا يولد مرة واحدة فقط كما يقول صاحب رائعة «مائة عام من العزلة» الروائي الأشهر غابرييل غارسيا ماركيز. هذا بالإضافة إلى أن الإنسان، وقبل أن يكون أي شيء من الأشياء، وقبل أن يعطى له أي وصف من الأوصاف، وما أكثرها، يظل، وكما قيل، وابتداء، «كائنا في حيز مكاني» يضفي عليه خواصا مميزة بالنظر إلى تفاوت المسافات واللغات والثقافات التي تفسر تعدد الأمكنة بل وتعدد المكان الواحد في أحيان إذا جاز الحديث عن «بوليفونية المكان».
وكما أن علاقة الإنسان بالمكان، وهو ما نكون قد مهدنا له قبل قليل، تبدو قائمة على ذلك النوع من «الانغراس العمودي» الذي يخترق طبقات المكان رغم السطحية الظاهرة والخادعة التي توهمنا بها الأمكنة ذاتها نتيجة تأثير الإقامة الباردة فيها. والمكان، كما قال عنه مترجم «جمالية المكان» الروائي غالب هلسا، في إحدى مقالاته، «قدر» بالنسبة للإنسان.
ولذلك فالأهم أن «يعيش» الإنسان مع المكان لا أن يعيش فوقه، ببلادته المتكلسة والمعهودة، ودون أن ينصت إلى أعماقه.  بكلام آخر: المكان ليس حيزا جغرافيا أو هندسيا معزولا عن قضايا الإنسان التي هي قضايا الوجود والمعرفة والإبداع والحرية… إلخ.
المكان امتداد للكائن وبالقدر نفسه هو انعماق بأمشاج وشرايين هذا الأخير. وهو، بدوره، «يرى»؛ لكن بـ«عين الإنسان المبدع»، «العين اللاقطة» التي عادة ما تمجدها الفينومينولوجيا: فينومينولوجيا الإدراك تعيينا.
وعلى مستوى آخر ثمة من يموضع المكان في صميم الفكر الإنساني ذاته، الفكر الذي هو علامة على حرص الإنسان على الانخراط في التاريخ اعتمادا على آليات «التأثير» و«التوجيه» تأكيدا لمبدأ الحضور الفعّال في الآفاق المتنوعة التي يبدعها الإنسان ذاته في دنيا الوجود الأخاذة التي تستوعبه وتستهويه في آن واحد. وفي السياق نفسه لا يبدو غريبا أن يشدد البعض على أن الإنسان يفكر بالمكان، وبكل ما ينطوي عليه مثل هذا التصور من تأكيد على مركزية المكان على مستوى سبر أغوار الذات الإنسانية. ثم إنه حتى «البنيوية» التي كثيرا ما شددنا عليها، من قبل، وعلى «رطانها» تحديدا، ولاسيما في ثقافتنا المغلوبة والمستلبة، بل واعتبرناها «فلسفة موت الإنسان»، نصت على أن العصر الذي نعيش فيه هو «عصر الأمكنة والعلاقات». هذا بالإضافة إلى أن المكان كاشف عن تشكل المجتمع ككل، «فضائيا». ولعل هذا ما يفضي بنا إلى ما يسميه «النقد الثقافي» بـ»الإقليم الثقافي» الذي يظل مميزا للمجتمع، أو بالأحرى «الهويات» الفردية والجماعية، رغم دعاوى «العولمة» في تنصيصها، وعلى مستوى المكان ذاته، على «الفضاء العولمي» الذي هو قرين تآكل أو فقدان الأمكنة بل والإصرار على محو الجغرافيات الثقافية بسبب من «إستراتيجيتها» القائمة على «سياسة» «التفكيك» و«التمزيق».
وعلاقة الإنسان بالمكان ليست أحادية البعد، وإنما هي معقدة الأطراف طالما أنها محكومة بوسائط متعددة جديرة بالتأثير على المكان ذاته وهي تنقله إلى مجال تجلي الظاهرة الإنسانية. وأول ما يصادفنا، هنا، «اللغة» التي هي مجال انشقاق الأنا وتصعيدها؛ اللغة ــ هذا «اللويتنان» أو «الوحش الأسطوري» المخيف الذي خلقه الإنسان غير أنه سرعان ما سيطر على هذا الأخير. اللغة التي تمارس، وانطلاقا من «سلطة التسمية»، «تحويلا» على المكان، بل وتجعل هذا الأخير ممهورا بنداءات الإنسان. غير أن ما يخول اللغة أن تزاول هذا «التحويل» هو «الأنساق الثقافية» التي تندغم فيها، وتجعلها ــ بالتالي ــ «تدخلا» في «العالم» و«اجتراحا» لـ«عوالم» أخرى هي أشبه بتلك النقطة التي يصعب رصدها في الدائرة. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى الأديان والأساطير والفنون والفلسفات التي تشكل، حسب يوري لوتمان، «أنظمة النمذجة الثانوية» جنبا إلى جنب «نظام النمذجة الأولى» الذي تمثله اللغة. ومن تضافر هذين النظامين تتكشف «النمذجة المكانية» التي لا تفارق بدورها، وفي تصور بوري لوتمان دائما، في كتابة «بنية العمل الفني»، مشكلات الموضوع والمنظور.
ولا تفارق «النمذجة المكانية» «مسألة البناء»، «بناء المكان». والمكان بالنسبة للإنسان ليس «حيزا فيزيقيا»، وإنما هو «حقيقة معاشة». والإنسان بدوره يحرص على بناء مكانه وعلى شاكلة ذلك الطائر الذي يبني عشه (بيته) بطريقته المخصوصة التي لا تزال الهندسة (العلم)، وحتى الآن، عاجزة عن إدراك سر الدقة البادية في هذا البناء. و«الإنسان قادر على صنع كل شيء عدا عش الطائر» كما يقول المثل الذي يذكرنا به غاستون باشلار في كتابه الإشكالي سالف الذكر «جمالية المكان» (1957). ومهما كان فإن الإنسان بدوره يسعى إلى تأثيث مكانه بطرائق لا تخلو من تدخل «الخيال الخلاق». يقول باشلار في الكتاب نفسه: «إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا، ذا أبعاد هندسية وحسب. فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيز» (الترجمة العربية، ص31). ودون أن نتغافل، هنا، عن أن هذا الخيال لا يخلو من صلات مع سحر الثقافة التي يتحدر منها الإنسان والتي تتسرب في مسلكيات هذا الأخير المميزة. وكل ذلك حتى لا نحصر الثقافة في مجال المكتوب فقط، المكتوب أو الكتابة التي اعتبرت جالبة للفساد في تصور بعض المجتمعات البدائية.
وتجدر الإشارة إلى أن «الإدراك» هو بوابة تعالق الإنسان مع المكان، فلا وجود لهذا الأخير في معزل عن الإدراك. وكما قيل فالإنسان يدرك العالم إدراكا بصريا… وعلى هذا المستوى الأخير، وكما يقول يوري لوتمان، يمكن اعتبار المبدأ الإيقوني، والصفة البصرية، من الخصائص الأصلية للأنساق اللغوية. غير أن السند البصري ذاته لا يفيد البتة أي نوع من الإدراك الموحد، أو حتى المتجانس، للمكان؛ ولسنا في حاجة، هنا، إلى التأكيد على أن البصر هو أضعف الحواس كما قيل. وتعلمنا الفينومينولوجيا أن الأهم ليس هو الشيء في حد ذاته، وإنما تأثير هذا الشيء، وهنا يتدخل التخييل والتأويل في عمليات الإدراك. ولذلك لا تفيد مفردات المكان معنى واحدا وموحدا، إنها قرينة الدلالات المتفاضلة لا المتواكبة أو المتكاملة. وإذا جاز أن نوظف لغة المناطقة: المكان متوحد على مستوى الأعيان، غير أنه مختلف على مستوى الأذهان.
ومعنى ما سلف أن المكان لا يحضر في مستوى واحد، وإنما في مستويات متعددة. وهذا الاختلاف يتأكد، أكثر، في «التشكيل»: «تشكيل المكان»، ولاسيما داخل الإبداع، الشعر تعيينا، الذي هو مدار هذه الدراسة. ومصدر الاختلاف، هنا، هو اللغة التي كنا قد تحدثنا عنها. ومن هذه الناحية يحضر المكان في أشكال مختلفة تبعا لاختلاف لغات أو مرجعيات الشعراء. غير أنه، وقبل أن نشرع في موضوع الصلة التي تصل ما بين الشعر والمكان، لا بأس من أن نختم بـ«التأثير» الذي يعقب عمليات الإدراك وإواليات التشكيل. فالمكان، ورغم التحويل الذي يزاوله عليه الإنسان، يظل مصدر تأثيرات لاحقة بسبب من التباسه بالفكر الإنساني. فالإنسان يصوغ المكان وبالقدر نفسه يصوغه المكان؛ ثمة نوع من «اللعب المرآوي المتبادل».
وعلى الرغم من الانفجار النظري الهائل الذي صار علامة على العصر الذي نعيش فيه فلا تزال النظريات النقدية القديمة تحافظ على راهنيتها الإبستيمولوجية ونجاعتها المعرفية الجلية. ومن ثوابت الشعرية الأرسطية القديمة أن الأدب «محاكاة»؛ و«المحاكاة»، هنا، لـ«أفعال» الإنسان التي تظل محكومة بزمان متزمن ومكان متأطر. وعلى هذا المستوى يظل سؤال النوع الأدبي المهيمن سؤالا مصاحبا أو محايثا في تاريخ الأدب. وفي ضوء التنابذ الذي يطبع العلاقة بين الأنواع الأدبية لا يبدو غريبا أن يتم التشديد على النوع الروائي، بل وأن يتم اعتبار الزمن الذي نعيش فيه «زمن الرواية». بل صار مفهوم «زمن الرواية» في شكل مسلمة نقدية وفكرية لدى العديد من نقاد الأدب. وبالنسبة للعرب لا يبدو غريبا كذلك أن تعد الرواية «ديوان العرب الجديد» وعلى ما يومئ إليه هذا الحكم من إنزال للشعر من تربعه على عرش الأنواع الأدبية. ومن هذه الناحية كثيرا ما تم التشديد على أهمية الرواية من ناحية صلتها بالمكان ذاته، ولاسيما من ناحية صلتها بـ«المدينة»؛ فهي «بنت المدينة» و«نثر المدينة»، بـ«أحيائها الخلفية» و«الأمامية».
ومهما كان تصور البعض للمكان من أنه عنصر من العناصر التكوينية للعمل الأدبي فـإنه (أي المكان) يظل، وفي جانب أهم منه، «خلفية» للأحداث وفي الوقت ذاته يظل «معادلا كنائيا» للشخصيات التي تؤدي هذه الأحداث. والظاهر أن الشعر، وعلى صعيد تشابكه مع المكان، يفارق دلالات «المطابقة» ودلالات السعي إلى الكشف عن «المستور» و«المقموع»… وعن «القاع الاجتماعي» و«التحويل المجتمعي الملموس»… وغير ذلك من الدلالات التي تقع في الأساس المقولاتي والتصوري للنوع الروائي. فالشعر مجال للتعبير عن دلالات مغايرة تحوم حول مقولة «الإحساس بالمكان» التي استخلصها مارتن هايدجر من انهمامه الفلسفي الفينومينولوجي بالشعر في بعض نماذجه العالمية الباذخة. والإحساس، وفي حال الشعر دائما، لا يفارق دلالات الوجود والمعرفة والاحتمال… لكن شريطة الارتقاء به إلى مجال «اللغة» أو «انبساط التكلم» كما يسميه هايدجر نفسه، مما يضاعف من أهمية هذا الإحساس. وكل ذلك في المنظور الذي يفضي بالدلالات السالفة إلى دائرة مجابهة الصدأ والتأجيل والمصادرة والمحو والنسيان… وكل ذلك أيضا في المدار الذي يصل ما بين الإدراك والتشكيل والتأثير، بالاعتماد على آليات الترميز والتقنيع تارة وآليات الاستعادة والمناقلة تارة أخرى.
وبعد هذا التحليق النظري، الذي كان بالإمكان أن يطول أكثر، يمكن القول، وفي حال القصيدة المعاصرة بالمغرب، بأن المكان يظل حاضرا، وبشكل ملحوظ، في أمشاج هذه الأخيرة… بل إنه كان وراء إكساب القصيدة نفسها ضربا من «الخصوصية»، لكن شريطة الدفاع عن الخصوصية التي لا تسعى إلى مناطحة «الكونية» و«آفاق العصر». فلا مجال، هنا، لـ«التسييج الحضاري» و«التصوف القومي» وغير ذلك من الدعاوى التي تجعلنا خارج الإنصات لما يحدث في العالم الذي من حولنا. ووعي في هذا الحجم، وانطلاقا من الشعر الذي هو «تجربة معرفية وأنطولوجية» في الأساس، لا يمكن للمكان أن يضطلع به من خارج دائرة «الشكل» باعتباره «إرادة للقول» التي هي «إرادة الإنسان غير الأخير» إذا جازت لغة الجينيالوجيا. ومن ثم يمكن فهم التباس المكان، وبمفرداته المتناثرة ومستوياته المتباينة، بالحلم والجسدانية والهذيان… وفي مقابل ذلك تصديه، وانطلاقا من ارتقائه لمستوى الكلمة، الكلمات، لسديم الخيبة وأدغال الشر المحض.
وقبل تدبر هذه الدلالات لا بأس من أن شير إلى ذلك الضرب من «الوعي المنقسم» الذي يتجسد على صعيد المكان ذاته حين يفرض هذا الأخير ذاته على القصيدة قبل أن يصبح موضوعا لها. ولا نقصد، هنا، إلى الشعر من حيث هو «مسكن»، ولا إلى «الصورة الشعرية»، أو «سقوف المجاز» تبعا لعنوان عبد السلام الموساوي، باعتبارها أمكنة فرعية تعزز المكان العام. المكان، الذي نقصد إليه، يقع في صميم «الشكل» الذي سلفت الإشارة إليه  قبل قليل. وعلى هذا المستوى فقد فرضت «الصفحة الشعرية» ذاتها، بقوة، وإن في مرحلة سابقة، على الشاعر المعاصر بالمغرب؛ وكل ذلك من خلال «مشكلة الخط» ودور هذا الأخير على مستوى إشراك «العين» في «الإنتاجية الدلالية» للنص. وكان النقاش، وحول المشكلة نفسها، قد تفجر، ومن جديد، وفي الصحافة المكتوبة، لمناسبة إصدار الراحل محمد الماكري لدارسته الرائدة «الشكل والخطاب» (1991) التي وجّه فيها انتقادات دالة للتجربة الكاليغرافية بالمغرب ولاسيما من ناحية «انغلاقها» وارتباطها بـ«رغبات أفراد» وعدم «استجابتها» لتبدلات المجتمع والثقافة… غير أن النقاش، وفي جانبه الأكبر، وللأسف، كان عقيما بسبب من تشحيمات أنا البعض الزائدة بل والمتقيحة التي سارت في اتجاه ادعاء تحرير «الخط المغربي» من «كبته السحيق»، مما كان له تأثيره على مستوى «اختبار» هذا «الخط» من خارج دائرة «الظرفية» التي كانت قد لازمت التعاطي له من قبل. إجمالا فإن النقاش حول الخط قد يفضي بنا إلى مجال أوسع ومتشعب بالنظر إلى تجاوزه لمستويات اللون نحو الأشكال اللفظية وغير اللفظية، الهندسية وغير الهندسية. غير أن السؤال غير المفكر فيه، هنا، وسواء فيما يتعلق بالخط في القصيدة أو بـ«القصيدة البصرية» ككل، هو في مدى التباس المكان/ الصفحة أو التشكيل المكاني للصفحة بسبل «استقطار المعنى». هذا لكي لا نتحدث عن تلك «اللاعقلانية التدميرية» التي سعى البعض، ولا يزال، إلى التلويح بها. فالشاعر المغربي، هنا، كانت، ولا تزال، وما عدا في نماذج معدودة جدا منه، تنقصه تلك «المطرقة» التي كان كلما تقدم بها زرادشت، وهو يهدم الجبل، إلا وكان ينحت أو يرسم لنفسه صورة الإله التي هو صورته. وغاية القول، هنا: ثمة بون بين «اللامعنى» و«بؤس المعرفة والإنسان». هذا بالإضافة إلى أنه لا يزال هناك أكثر من سؤال حول مدى إفادة الشعر المعاصر بالمغرب من «التحول المرآوي» الذي هو قرين «الحداثة المشهدية».
ويفرض المكان ذاته منذ الأعمال الأولى الدالة على الشعر المعاصر بالمغرب. ومن هذه الناحية يستوقفنا عمل المجاطي «الفروسية» (1987) الذي ضم قصائد كان صاحبها قد نشرها ما بين 1962 و1977 ما عدا قصيدة واحدة «الحروف» (1985). قصائد كاشفة، وبمراكزها الدلالية، عن التباس، أو تمفصل، الشعر بالمكان. وفي هذا المنظور نقرأ عن «دار لقمان عام 1965» و«قراءة في النهر المتجمد» «ملصقات على ظهر المهراز» و«القدس» و»كتابة على شاطئ طنجة» و»سبتة» و«الدار البيضاء» و«الخمارة»… إلخ. يبدو جليا، إذا، وانطلاقا من العناوين في سعيها إلى توجيه القراءة، مدى هيمنة المكان، هذا إذا ما لم نعتبر المكان «شرارة» دفق الإبداع في حال «الفروسية». غير أن المكان، في العمل، محكوم بفهم متعين… إنه «رمز» و«قناع».
وإذا كان عمل المجاطي «الفروسية» كاشف عن نبرة مغربية وعربية فإن عمل مجايله محمد الخمار الكنوني «رماد هسبيريس»، الصادر في العام نفسه، والحاوي لقصائد كتب أغلبها ما بين 1965 و1972، كاشف عن نبرة مغايرة تندس، ورغم بعض الإشارات إلى أمكنة طبيعية، في صميم «الأسطورة». وهذا ما يتأكد بدءا من العنوان «رماد هسبيريس» الذي استخلصه الشاعر، وكما يثبت ذلك في أحد هوامشه، من «حدائق هسبيريس» الأسطورية بمدينته (القصر الكبير). وأما «الرماد» فهو دال على مدلول «الخراب» الذي يلوي بـ«صحراء الذات» الذي يرد عليه الشاعر بالإبداع المتحدر من «الميثولوجيا القديمة» التي يجردها، وبلحمة ودمه، لا بذهنه، من مستواها المعجمي السطحي المقحم ويجعلها ــ بالتالي ــ تتسرب في دوران المراكز الدلالية التي تلوي بالفضاء الدلالي للنص.
وفي السياق نفسه ثمة أمكنة أخرى لشعراء جايلوا المجاطي والكنوني وفي إطار من تلك المرحلة المفصلية في التاريخ الحديث والمعاصر للمغرب. غير أن القصائد التي تغنت بتلك الأمكنة تلاشت قبل تلاشي الأمكنة نفسها. ويبدو جليا أننا نقصد إلى «الأمكنة ــ الأقنعة» التي كانت مشدودة إلى حبال «الايدولوجيا الوثوقية» التي كانت تستبق الفعل الشعري ذاته بل وتجعل من هذا الأخير مجرد «وسيط» لها في «ساحة المواجهة الزاعقة» التي كانت، وقتذاك، رديفا لـ«الثقافة» في اتكائها، المطلق، على مفاهيم عضوية في مقدمها «أحلام الثورة» و«مقولة التغيير». ويكفي أن نشير، هنا، إلى «البرج العنيد» الذي كان يتخندق فيه سواء صاحب العمل الراحل محمد الوديع الأسفي (1923 ــ 2004) أو غيره من الشعراء من المجايلين له أو اللاحقين عليه في ذلك «الأفق»، أو بالأحرى «النفق»، الإيديولوجي اللاهب، الذي شغل الفترة الممتدة من الستينيات الصاعدة إلى السبعينيات النازلة.
وفي الحق فإن الشعر المعاصر بالمغرب سيأخذ منحى آخر مع ما ستسميه الآلة النقدية بـ«جيل السبعينيات» الذي سيحيط تجربته بكثير من «النقاش». ولا نعتقد في جدوى رصد التبدل الذي كان في أساس هذا المنحى في معزل عن استحضار المكان وطرائق انسيابه في القصيدة. وقد قاد انفتاح بعض أسماء الجيل على الشعر الغربي، والفرنسي بوجه خاص، ودونما أي قطيعة مع التراث، إلى التفكير في ذلك النوع من التشكيل المكاني للصفحة الذي سلفت الإشارة إليه. ولا يخفى أنه كان لمحمد بنيس دور لا ينكر على هذا المستوى، خصوصا وأنه عاد، في أطروحته اللاحقة حول «الشعر العربي الحديث»، في الجزء الثالث منها والمكرس لـ»الشعر المعاصر» (1990)، إلى التوسيع المكثف في الموضوع نفسه ومن خلال ما أسماه، وبالاستناد إلى النقد الفرنسي المعاصر، بـ«المكان النصي» الذي هو قرين «الصفحة المتعددة» تبعا لتوصيف هنري ميوشنيك الذي يحيل عليه. والأهم أن الشاعر، وفي إطار من «فك الالتباس» بين الشاعر ذاته والناقد، سعى، وعلى صعيد القصيدة ذاتها، إلى توريط «الصفحة»، «صفحته» أو بالأحرى «صفحاته»، في تفعيل أنساغ الإبداع. وأعماله، الشعرية، وترجماته كذلك، المنشورة، وبحس الناشر أيضا، دالة على هذا الاختيار أو الاستراتيجية. هذا وإن كان السؤال، وسواء في حال بنيس أو سواه من «التجريبيين»، يظل مطروحا، وبإلحاح، حول مدى التباس هذا الاختيار بالإبداع بمعناه المطلق؟ أم أنه لا يعدو أن يكون مجرد رغبة في إحاطة النص بالكثير من اللغط؟
غير أن بنيس لا يحصر تصوره للمكان في المكان النصي. ومن هذه الناحية فهو لا يتصور  الشعر مجرد «لغة» فقط، وهو ما «يتهمه» البعض بها. «إن الشعر [والكلام له] أوسع من أن يشتغل على اللغة بمفردها. فهو إلى مكانه الوثني يستعجل الرجوع» («كتابة المحو»، ص88). وقبل أن نخلص إلى «المكان الوثني» لا بأس من أن نشير إلى «المكان الفيزيقي» الذي نجد أكثر من إشارة له في شعر الشاعر وبدءا من عمله الأول «ما قبل الكلام» (1969) الذي خص فيه فاس بنص «من صور المدينة» لا يخلو من نبرة سيابية ويستهله قائلا: «دسست يديَّ بين نسيمك المعطار/ لأعرف ما يخبئه النحاس» (ص77). إلا أن مثل هذه الإشارات لا تغطي، وبسبب من التصور المسبق للشعر، على «البعد الميتانقدي» للمكان في «مشروع» بنيس الشعري. وفي هذا الصدد يمكن أن نصل، ومن جوانب عديدة، بين كتابته النقدية وكتابته الشعرية. ومن ثم فإنه يمكن قراءة عناوينه، وسواء السابقة مثل «ورقة البهاء» (1988) و«هبة الفراغ» (1992) أو اللاحقة مثل «المكان الوثني» (1996)، باعتبارها «امتدادا» لنصوصه النقدية الموازية المتضمنة في «كتابة المحو» (1994). ويهمنا أن نشدد، هنا، على «المكان الوثني» الذي هو في تصوره «المكان الشعري بامتياز» والذي يسعى إلى أن يرقى به الشاعر إلى دائرة «المحو» التي لا تفارق بدورها دوائر «الهباء» و«الفراغ» و«الحلزون» و«الهذيان» و«الهاوية» و«النسيان» و«الموت»… إلخ. ذلك هو «المكان الذهني» الذي «يبقى» فيه صاحبه، أخذا بعنوان عمله (الأخير) «هناك تبقى» الذي يذكرنا، وهنا «تأثير» أو «تدخل» المقروء مرة أخرى، بـ«دايزن» (أو «الكائن، هنا») هايدجر الشهير.
وتكشف تجربة الشاعر الأبرز محمد بنطلحة، ومن ناحية المكان، أو بالأدق «اللامكان» كما سنوضح بعد حين، عن «أفق مغاير»… ولاسيما من ناحية القصيدة ذاتها التي يجعل منها صاحبها «المحك» الأساس للإبداع بمعناه الجذري المصمت. وتجدر الملاحظة إلى أن الشاعر ينشر، وعلى فترات متباعدة، نصوصا نقدية مفتوحة، كثيفة وبارقة، وقبل ذلك فهو صاحب أطروحة حول الشعر، غير أنه يصر، وهنا يكمن فهمه المغاير للشعر، على أن يمايز ما بين النقد والشعر. ونقصد، هنا، إلى النقد بمعناه المنهجي والمدروس، بل والشخصي التسويقي في أحيان كثيرة، مما يشوش على الإبداع ويجعل منه مجرد «تمرين لغوي أجوف». وتكون الحصيلة «شاعرا من الدرجة الثانية»، وــ في مقابل ذلك ــ «ناقدا جنتلمانا» إذا جاز التوصيف الأنكلوسكسوني. أجل إننا لا نعدم تصورا متعينا للشعر لدى بنطلحة وبموجبه يتكشف نوع من التمجيد لـ«العماء» و«الغبار» و«السَدوم» و«فخاخ المعنى»… غير أن هذا التصور أو المقروء يتسرب في أنساغ القصيدة أو فضاء الدلالة. إجمالا إن الحديث عن بنطلحة، الشاعر الذي آثر، وعلى شاكلة جده الفني بودلير، «أن يعيش بعينين مغمضتين»، لا يمكنه إلا أن يطول أكثر وأكثر… ولذلك يمكن أن نختم، في حاله، بأن «فطنة الأعمى» (والتوصيف له ومقتبس من «سدوم») جعلته يتعالى على «المكان» نحو نبض «المطلق» و«اللامتناهي»… وكما يقول في «بعكس الماء»: «ثمةَ/ حيث كلٌّ قطرةٍ/ محيط».
وقبل أن نختم بـ«اللامكان» لدى الشعراء الذين يفيدون من التصوف يستوقفنا شاعر آخر، سبعيني، تكشف تجربته عن تعلق كبير بالمكان المتمثل بالمدينة التي يقيم فيها، مدينة أصيلة الصغيرة الغافية على شاطئ الأطلسي. ونقصد، هنا، إلى الشاعر المهدي أخريف الذي استهل تجربته بمجموعته الشعرية المعنونة بـ«باب البحر» (1983) الذي هو إحدى الأمكنة البارزة بالمدينة بل والدالة على ذاكرتها الثرية. ولا يتوقف صاحب المجموعة عند هذا المكان فقط، وإنما يستدرج أمكنة أخرى إلى بوتقة انصهار الشعري. وهو ما سيعاوده، وإن بحدة أقل، في أعماله اللاحقة «سماء خفيضة» (1989) و«ترانيم لتسلية البحر» (1992) و«شمس أولى» (1995)… بل إنه سيتعاطى لأمكنة المدينة، ووجوهها، من خلال أعمال نثرية موازية، و«النثر فضاح للشعراء» كما قال الجاحظ منذ زمان، على نحو ما نجد، وبوجه خاص، في عمله «حديث ومغزل» (2000). ويبقى أن نختم، في حال تجربة الشاعر، أن أهم ما يميزها، ومن ناحية التعاطي للمكان، هو «الاستعادة» التي تلتبس، في أحيان كثيرة، بـ«عين الكاميرا». غير أن الاستعادة، هنا، «رؤية» لا «تقنية»؛ ولذلك فالمكان، في تجربته، «مصفى» و«هارموني».
وتفضي بنا «الاستعادة» إلى «اليومي» الذي يسعى شعراء قصيدة النثر إلى «التقاط» نبضه وصوغه بالتالي في قصائدهم الشعرية الدالة عليهم. وفي هذا الصدد يمكن التشديد على تجربة الشاعر حسن نجمي ولاسيما من ناحية مجموعته الرابعة «حياة صغيرة» (1995) التي تحفل بالأمكنة الصغيرة وعلى النحو الكاشف عن الشاعر من حيث هو «كائن مديني» وعن القصيدة من حيث هي «عمل انطباعي». ولا داعي للتوسيع في «انحياز» الشاعر النظري لـ«الفضاء» الذي أفضى به إلى إنجاز دراسته الموسومة بـ«شعرية الفضاء الشعري» (2000). وفي السياق نفسه، سياق قصيدة النثر، ومدى صلتها بالمكان، يمكن أن نشير إلى تجربة الشاعر جلال الحكماوي المتضمنة في مجموعتيه «شهادة عزوبة» (1997) و«اذهبوا قليلا إلى السينما» (2005) الكاشفتين عن الشاعر من حيث هو الآخر «كائن مديني» لكن على نحو «عولمي» هذه المرة. ومن هذه الناحية يمكن تأطير تجربته، وعلى صعيد المكان، ضمن ما ينعته الناقد الهندي هومي بهابها بـ«الفضاء الثالث» القائم على «التهجين» الذي هو نتيجة تداخل ثقافة الداخل والخرج. والشاعر، هنا، لا «يقاوم» أو «يرفض» كما تنص على ذلك «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي» التي يتحدر منها مفهوم «الفضاء الثالث»؛ إنه «سعيد» بـ«الفضاء العولمي» و«الخيال العولمي».
ويبلغ المكان «حراكه»، بشكل أوضح، في الأعمال التي تفيد، وبتفاوت، من «التصوف» أو «قارة التصوف». وتلك هي «رعشات المكان» التي يعنى بها الشاعر محمد عنبية الحمري في عمله الموسوم بالعنوان نفسه (1996).  فالمكان، هنا، مرآة لرعشات الشاعر في ظمأه  الروحي وفي دنيا الخيال الجانح والخلاق. على أن ما يسميه كل من غتاري ودولوز بـ»الأرض المتحركة» هو ما يمكن أن نلمس له بعض التجلي في «ولع بالأرض» الذي جزأه صاحبه الشاعر محمد الصابر إلى جزأين. إلا أن الشاعر لا يتقوّم على هذه الأرض إلا لكي  يعرج، وبدافع من ارتحالات الصوفي المثابر على الوصول إلى لحظة الكشف، إلى «المجرات» بنجومها الكثيرة التي لا يتميز بعضها عن بعض. وهذه المجرات هي الوجه الآخر لـ«أنخاب» الشاعرة وفاء العمراني، و«فاكهة الليل» لصلاح بوسريف، و»امرأة من أقصى الريح» لإدريس عيسى… وكل ذلك في المنظور الذي لا يفارق البحث المحموم عن ذلك النوع من «الكوثر» أو «الرحيق الإلهي» الذي يتطلع إليه الشاعر بعصا المتصوف وقلب الشاعر، وكل ذلك أيضا في المدار الكاشف عن «الانتشاء الروحي» الذي يبلغ في أحيان حد «الإغماءة الصوفية» و«النزيف الصوفي». ومع أن التصوف تيار عام، فإن لكل واحد من الشعراء تصوفه الخاص به» كما قال إحسان عباس في دراسته «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» (ص160). لكن دون أن نتغافل عن سؤال «التحقق النصي» للمتن الصوفي في الشعر المعاصر بالمغرب، ذلك «التحقق» الذي هو جدير بأن يضمن اتصال وانفصال الشعر والتصوف في الوقت ذاته.
وخلاصة القول فالمكان، وبعد كل هذا التقدير النقدي والفلسفي، لا يعدو أن يكون سوى عنصر ضمن العناصر الأخرى التكوينية للعمل الأدبي. غير أن أهميته تكمن في كون أنه يكشف ما لا تكشفه العناصر الأخرى الباقية في سلم التحليل والتقويم، وكل ذلك حتى لا نسقط في النظرة الجزئية أو البعضية التي لا تفي بالنظر إلى العمل الشعري في جماع عناصره التي تصل ما بين الماهية والأداة والوظيفة. غير أن النظرة البعضية، التي يؤدي دلالتها المكان، هنا، تظل خطوة دالة، وضرورية، على طريق النظرة المتكاملة ذاتها، لأن المكان من «الحقائق الكبرى» التي تمنح القصائد فرصة أن تقرأ وأن تعاش في الوقت نفسه.