جلال الحكماوي: اذهبوا قليلا إلى السينما (قصائد تمتح مواضيعها من اليومي وتسخر من تحميل القصيدة مسؤولية لا تعنيها)

jalal_alhakmawai_books

محمد المزديودي
(المغرب/باريس)

 
عن دار توبقال المغربية صدر أخيرا ديوان شعري للشاعر والصحفي والمترجم المغربي جلال الحكماوي تحت عنوان “اذهبوا قليلا إلى السينما”. الديوان يكشف حيوية القصيدة الحديثة في المغرب، خصوصا بعد أن نشرت نفس الدار ديوانا جميلا للشاعر والصحفي المغربي المقيم في باريس عبد الإله الصالحي يحمل عنوان “كلما لمستُ شيئا كسرتُهُ”، ونال، عن جدارة، جائزة بيت الشعر المغربي لسنة 2005. والشاعر الحكماوي سبق له أن أصدر ديوانا أولا صغيرا، لم يلتفت إليه النقد المغربي والعربي، للأسف، بعنوان مثير هو “شهادة عزوبة” عن دار جلجامش الباريسية التي كان يشرف عليها الشاعر العراقي صموئيل شمعون.

ينضح الديوان بقدرة غريبة على التوليف بين مرجعيات عربية (بقديمها ومعاصرها) ومرجعيات غربية (أسماء أعلام غربيين) في شقها الحداثي وما بعد الحداثي. ثقافة هامة يتمتع بها الشاعر ساعدته على خلق مفارقات مذهلة. يأتينا الشاعر من حيث لا نحتسب. وكأنما يحاول أن يكتب قصيدة جيله أو زمنه. القصيدة التي لا تعني شيئا، بالنسبة للذين يبحثون عن القضايا الكبرى في القصيدة. القضية الكبيرة التي يدافع عنها الشاعر الحكماوي أو ديوانه تبقى هي الأشياء الحميمة والشخصية. هي اليومي في قسوته وسطوته، وأحيانا في سعاداته القصيرة. هي الخيبات(خيبات الأمل) التي تكشف عن أن الشاعر يظل لا شيء، أو لا فاعلا أمام العالم القاسي والدموي. ولكن الشاعر يمتلك أدوات سحرية للمقاومة، تتمثل في السخرية والضحك وفي ملامسة مواضع الألم بكثير من الانخراط الشخصي ومن المزاوجة ما بين الأنا والآخر، وكأنه يحقق لوحده، على طريقته، حوارا للحضارات أو حوارا مع الآخر، باختلاف مشاربه واختلافاته .
لا يطالب الشاعر، في عنوان الديوان، بأكثر من الذهاب إلى السينما، ولكنه ذهاب واعٍ وما على القارئ إلا أن يفكر في الأسماء (أسماء الممثلين والمخرجين وأسماء الأفلام) “هامستر الدنيا”، قصيدة قصيرة تتحدث عن الشاعر، وهو يذكر بالاسم اسمه “جلال الحكماوي”، من دون تنبيه يضعه المؤلفون (كل تشابه مع الكاتب هو من محض الصدفة).
“تركتُ الممثلة الصاعدة على شاشة أرض أخرى/صوّرت المشهد الأول من بربرية الشمس/ضاقت عيني بضوء الأخوة/ (صارت لي ملامح تاكيشي اليابانية).” (ص17) أنظر إلى جلال الحكماوي/ (نفسي؟)/مخلوقا آنيا من ذهب الجاهلية” (18)

وتعتبر قصيدة “شاعر شابّ بسروال جينز” من أجود القصائد تعبيرية، كما أنها جميلة أيضا لأنها تتحدث عن الشعر أيضا. ربما هي أيضا قصيدة يكتبها الشاعر عن نفسه. من يدري؟ السمات الشخصية، ولكن التي قام بصهرها بتفاصيل الواقع، حاضرة.
تبتدئ القصيدة بهذه “المقدمة” التي تستحضر “الراحلة” (ناقة الشعراء): ” لأن الشاعر الشابّ لم يتعود على ركوب ناقة/طرفة بن العبد/لأن طرفة بن العبد لم يستعمل الهاتف المحمول/ في السينما” (21) ويسترسل الشاعر في تفاصيله المفارقة “لأن السينما سئمت من أكل البيض/لأن البيض المقلي، مثلا، ليس الحلّ الأمثل/لشاعر شابّ لم يجد “صوتَهُ، بعدُ.” (نفس الصفحة).
الشاعر لا يمكنه إلا أن يكون في خضمّ الحاضر بـ”أسنانه”، كما يقول: “لأن البارحة التي تقضم أمامي المعلَّقَات السبع/لها أسنان قوية كأسنان عترة البيضاء/لأن عنترة لا يفهم لماذا لا يقرأ/شباب هذه الأيام/بانت سعاد…شباب اليوم وسُعاد ينتظرون أمام مَرْقص باليما/لأنه مشغول جدا بالتناص، بقهوة لافازا المزورة/بصراع الشرق والغرب، بكتابة السجن، بلسانيات الدُّمى/بسبب الدمى ضيّع الشاعر الشابّ مفاتيحه أيضا/(في مَرقص باليما على الأرجح” (22-23)
القصيدة تتحدث عن هموم الشاعر الشاب، ربما كل الشعراء الشباب، والعرب على وجه الخصوص.
“الشاعر الشابّ الذي يلبس الجينز يحلم بالمشاركة/في مهرجان عالمي/لأن المهرجان يُعلّم الشاعر من أين تؤكل الكتف،/الأذن، القصيدة، الدمية وشورمة لو اللذيذة/عادة لا أحد ينتظر لو/لأن لو لا تطيق لَنْ/( بالرغم من توسّل أنسي الحاج الذي اشتعلت قصيدته غَيبا)” (23)
في خاتمة هذه القصيدة نعرف بأنّ مكانة الشاعر في المجتمع العربي بائسة، هي ربما نفس مكانة الإنسان العربي عموما.
“لن تلتهم كباباً وكفتة في النقابة/لأن الكباب لا يأكله الشاعر الشابّ/الذي يلبس الجينز الممزق عند الركبة/إلا بعد الأربعين أو الخمسين” (23-24)
السبب بسيط كما يورده الشاعر، لأنه:
” بعد الأرٍبعين/نحدق في سوبر ماركت الجاهلية بحياد/ لأن الشاعر الشابّ لم يتعود على ركوب ناقة/عنترة بن شداد” (24)
تحضر شخصيات وأسماء وأعلام هامة من تاريخنا العربي ولكن الشاعر الحكماوي يجعلها معاصرة لنا وتشاطرنا وتقاسمنا حياتنا اليومية. في قصيدة “المتنبي” “تلمس يد المتنبي نسور كتفي” (32) و “تلمس يد المتنبي آلاف كتفي” (33)
كل شيء يخضع في قصائد الحكماوي لمساءلة أو لمعاملة ساخرة من الشاعر. في قصيدة “أنف آل بّاتشينو”، يستعرض الشاعر بكثير من الدهاء، ظهور المد الأصولي، ولكنه لا يلعب دور السياسي أو المناضل، وإنما يسخر من انتشار البِدَع والشعوذات وتأثيرها على الشاعر والإنسان العادي الذي يعشق الحياة والسينما. “جئتُ إلى هذه الأرض المدلهمة/بأنف آل باتشينو/ (آل بّاتشينو الحقيقيّ ينظر إلى أعلى) /لأرى أبناءها يرقصون على دفوف القيامة/ويشقون ملابسهم ليخرجوا ليخرجوا منها/رُضّعا شدادا غلاظا/ويضربون بأكمامهم على بطن الرسالة الشرقية/يهاجمون ملصقات السينما السينما…/ يمزقونها إربا إربا/ويضعون مكانها صورة رجل اسمه/عذاب القبور/ (يصافحه بوش الابن بحرارة)” (30-31)
الديوان يضمّ 19 قصيدة يتراوح حجمها ما بين الصفحة الواحدة والأربع صفحات، وهي تكشف عن أسلوب متقارب ونكهة ساخرة تمنح القصيدة المغربية والعربية، آفاقا جديدة للتجريب والاكتشاف.
ولعل القارئ العربي، المتعود على الخطابة الرنّانة والمواقف الكبرى سيخرج من قراءته بمتعة مختلفة، هي بالتأكيد متعة الشعر في ذاتيته المفرطة والحميمية.

http://www.jehat.com/Jehaat/ar/KhuthAlketab/2006/jalal_alhekmawai.htm