” شاعر من ليبيا “

 

 مجلة موفق1

لا يعرف القارئ العربي كثيرًا عن الشعر في ليبيا، كما أن الأسماء التي استطاعت أن تخترق الحاجز وأن تحلّق في الفضاء العربي من بين قلّة من الشعراء قد لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، ومن بينهم في العقود الأخيرة: علي الفزاني، وعلي فهمي خشيم (أول أمين عام لمجمع اللغة العربية في ليبيا والذي رحل منذ عدة شهور)، وخليفة التلّيسي وراشد السنوسي ومحمد الفقيه صالح. وإلى جانب هؤلاء الشعراء هناك الشاعر عبد المولى البغدادي الذي ولد في مدينة طرابلس عام 1938، وحصل على درجة الدكتوراة في الأدب العربي الحديث من جامعة الأزهر، وقضى شطرًا كبيرًا من حياته في التعليم الجامعي، وقد صدر له ديوان بعنوان «على جناح نورس» عام 1999. ويتميز شعر البغدادي بطول النَّفَس، والوعي الكبير بجماليات الشعر العربي عبر عصوره التاريخية المختلفة، واصطناع لغة شعرية لها سلطتها وقدرتها على لفْت الانتباه، وجذب المتلقي إلى تأمل عناصرها البنائية، وقدرتها على الإدهاش في بعض المواضع، بالإضافة إلى النزعة الأسطورية التي أعطت لشعره مذاقًا خاصًّا يميّزه عن غيره من الشعراء الليبيين، وأتاحت مساحة لمعجم شعري مغاير، تتناثر مفرداته في ثنايا بعض قصائده، طبقًا لما يستوعبه وعيه الثقافي والشعري والفنيّ.
يقول عبد المولى البغدادي في قصيدة عنوانها: «أشواق عربية مهاجرة إلى الحبشة» وهي إحدى قصائد ديوانه «على جناح نورس»:

سلي جُفونكِ يا سمراءُ
ما فعَلتْ بنازحٍ غرّهُ في دربك السَّفرُ
صادي الجوانح في محراب غُربته
ما هزّهُ الشوقُ إلا بات يستعرُ
أبحرتُ في موجكِ الفضيِّ ليس معي
إلا المشاعر أُذكيها فتنهمرُ
يا غابةً من حنين ظامئ لَهثٍ
ماذا يُخبّئُ في أغواركِ السَّحرُ؟
ربابة في أكفّ الريح مُطبقةُ الـ
أجفانِ، ما مسّها عودٌ ولا وتَرُ
تئنُّ كالشفق الدامي على غَسقي
فنحن خِلاّنِ في أعماقنا سَفرُ
ماذا أُحَدِّثُ عنها إنها قَدَرِي
هل يدفعُ الحبُّ ما يأتي به القدرُ؟
قلبي وللسُّمرةِ العذراء لهفتهُ
أَحنُّ شوقًا إليها وهي تعتذرُ
تبرَّج الزهرُ في روضي لِيفْتنها
فجفَّ بين يديها ذلك الزَّهَرُ
والشعرُ في حِضْنها ما عاد أغنيةً
خضراءَ تعزفها الأنداءُ والمطرُ
ثم يخاطب الشاعر البغدادي عازف الربابة قائلاً:
يا راحلاً في فجاج الأرض ليس لهُ
إلا الربابة ملهاةٌ ومُتَّجرُ
لم تُبْقِ منه الليالي غَيْرَ حُلْكتها
ربّ النعاس فلا لهوٌ ولا سَمرُ
فيما يُحدّق؟ لا يدري، لقد طُمستْ
فيه الحياةُ فلا سمعٌ ولا بَصرُ
يُروّض النغم الجافي يهزُّ به
عطْفَ الندامى فما اهتزوا ولا شعروا
فالفنُّ أصبح منبوذ الرؤى خجلا
وذاب في الخبز حتى كاد يندثرُ
لمن يغني ويشدو لاهثًا تَعِبًا
أليس يعنيه غاب القومُ أم حضروا؟
فلاذ بالصمتِ واسترخت أناملهُ
على الربابة لا حسٌّ ولا خَبرُ
وارتدَّ في حلقه ما كان ينثرهُ
على موائد سُمّارٍ به سخروا!
ويقول عن السمراء في مهب الريح:
ما للأقاحيّةِ السمراء واجمةً
مثلي، تجمَّد في ألحاظها الكدرُ
هُزِّي الجذوع فلا الأغصانُ ذابلةٌ
ولا الأساور في كفَّيكِ تنصهرُ
إني لأحملُ عنك الوزْرَ حين أرى
براعم الطهر في نهديْكِ تُبْتَسرُ
يا للضياع الذي يجتاحُ أروقةً
أمست عليها خطاياهنَّ تعتذرُ
الماشطاتُ غُصون الليل حين دنتْ
تلك الغصونُ ووجه الليل معتكرُ
البائعاتُ الهوى بخْسًا لطالبِه
وما لهن سوى الأعراضِ مُدّخرُ
من كلّ حاسرة النهدين ليس لها
ماضٍ يشعُّ ولا آتٍ فيُنتظرُ
يصحو الضميرُ بها حينًا فيرسُمها
بتُولةً لم يُدنّس طُهْرهَا بَشرُ
وتعصف الريح أحيانًا بزورقها
فيُصبح الطهر شيئًا ما له أَثرُ
كأنَّ قلبين فيها يصرخان معًا
قلب طهورٌ وقلبٌ آخرٌ حَجرُ
مرتابة الحبّ في أحضان عاشقها
يجول في مقلتيْها الأمن والخطرُ
بسّامةُ الثغر والأعماق نازفةٌ
فالخصر يمرحُ والأحشاءُ تُحتضرُ
الجوعُ والأملُ الدامي وكيف لها
أن يُلجمَ الوِزْرُ فاها ثم لا تزِرُ
سمراءُ ذاتَ الهوى السحريّ هل بَلغتْ
بك الليالي مداها واختفى السَّحَرُ؟
لا زِلْتِ في نظري عذراءَ ما عَبثتْ
بك الخطايا ولم تُهْتكُ بكِ السُّترُ
ويصور الشاعر الليبي عبد المولى البغدادي تجليات الحضارة الحبشية عبر التاريخ قائلاً:
إيهٍ أخا الوجنة السمراءِ كم رحَلتْ
بك العهود وكم جالت بكَ العصُرُ
أنتَ الذي حمل الآلامَ داميةً
حتى تطاير من ألحاظِكَ الشَّررُ
ثم انفجرْت شظايا تستعيدُ بها
روائع الأمس غدَّارًا بمن غدروا
إنّ الحضارة لا تُمحى بزوبعةٍ
هوجاء، أو يتعالى باسْمها نَفرُ
هي العروقُ التي تجري الدماء بها
غضْبى، ولو دبَّ في أطرافها الخَدرُ
روَيْتُ أسمى غراسِ المجد فانبعثت
خضراءَ حتى نما في غُصْنها الثَّمرُ
دمُ «النجاشيِّ» لا زالت حرارتهُ
في النّبْع، في مُهج الأشبال تستعرُ
ويصور هجرة المظلومين الذين يعانون الأهوال ويلقون صنوف العذاب والهوان، قائلاً:
يا هجرةً لم تزَلْ فينا مُجدّدةً
عهودها، أيُّ سرٍّ فيك يستترُ
قد أينعتْ فيكِ من أشهى مدامعنا
مدامةٌ لم يُعاقر مثْلَها بَشرُ
أعنابُنا في رُبا «أكسوم» ما فتئتْ
منذ «ابن عفّان» حتى اليوم تُعْتصرُ
لا زال في الدّوح شدوٌ من بلابلنا
وفي الشفاه حديثٌ ليس يندثرُ
يا من يعيدُ إلى الأغرابِ ما سكبوا
من المدامعِ وليذهب بما ظفروا
همو الضحايا ولم يحفل بهم وطنٌ
تعشقوه ولم ينبضْ بهم خَبرُ
الراكبون متونَ الريح في لهبٍ
من الصراعِ فما ارتدُّوا ولا كفروا
السابحون مع الأهوال في بِركٍ
من الدماء فما ارتاعوا وما اندحروا
وعن عروبة «هرر» وعُمق انتمائها إلى «مُضر» والثقافة العربية الإسلامية يقول:
يا شعرُ هلاّ رويْت المجد عن هَرَرٍ
فالمجد يفخرُ أن تشدو به هَررُ
مضاربُ العُرْبِ تحيا في مضاربها
فيها الخُزامى وفيها المندلُ العطِرُ
لم يبرح الشوقُ يحدوها إلى «مُضرٍ»
مهما تشاغل عن أشواقها مُضَرُ
تُطلُّ من كوّةِ التاريخ شامخةً
كأنها ترقبُ الآتي وتنتظرُ
فالشمسُ في حِضْنها تغفو على دُررٍ
لم تكتنزْها محيطاتٌ ولا جُزرُ
فيا لكَنزٍ شَكتْ منه جواهرهُ
من طول ما احتجبت في قاعه الدُّررُ
يا سُورَها المتحدي كلًَّ عاصفةٍ
كم حلّقتْ فوقه العِقبانُ والنُّسرُ
وذاق مختلف الأهواء وازدحمتْ
على جوانبه الأسماءُ والصورُ
ما شدّني من رؤاها غيرُ مئذنةٍ
عاث الصليبُ بها والليلُ معتكرُ
تجثو المسابحُ حيرى حول منبرها
يحنو عليها الصدى والرمل والحجرُ
يا منْ يعيدُ إليها كفَّ ناظمها
ويشرقُ الذكْرُ والآياتُ والسُّورُ
وفي ختام هذه القصيدة التي تمثل إنجازًا شعريّا يحسبُ لصاحبها، وصفحة بديعة من صفحات الشعر الليبي الذي لا نكاد نعرف عنه إلا بضعة نصوص متناثرة لقلّةٍ من الشعراء هم عماد حركتها الشعرية الحديثة والمعاصرة في ختام هذه القصيدة التي تُمثل خصائص شعره وقسمات شاعريته ومَجْلى انطلاقه مُحلِّقًا في فضاء شعري عريض، مثقل بالإيحاءات والرموز والدلالات، التي تلتمع في ثناياه كاشفة عن موهبة غير عادية، ورؤية مثقلة بالتاريخ والتطلع إلى المستقبل، يقول البغدادي:
يا واحة في فجاج الأرض تغمرُني
ظلالها، كلّما لجّتْ بيّ السُّعُرُ
أحلى المغاني وأنداها وآنسُها
إلى الحيارى وإن عقُّوا وإن غدروا
عظيمة أنت يا سمراءُ في نظري
مهما تلوّن في أحداقكِ النظرُ
أبحرتُ في موجكِ الدامي على عجلٍ
فَلجَّ فيه شراعي وهو مُنكسرُ
أصارع الريح في أعتى زوابعها
أطفو بجسمي قليلاً ثم أنحدرُ
قوية أنتِ لا ضعفٌ يدبُّ إلى
حماكِ مثلي ولا خوفٌ ولا حَذرُ
لا عيْبَ في قدمٍ زلَّت بها حُفرٌ
لكنما العيبُ إن راقت لها الحُفرُ
قد يُؤْثرُ الدهرُ إنسانًا بِمحنته
فيبتليه بما لا يرغبُ البَشرُ
فلنحتفلْ بهوانا رغم محنتنا
فالحبُ آخر ما يغتاله القدرُ!.

فاروق شوشة
مجلة العربي العدد 637

التوقيع