صاحب «الزيني بركات» وضع السلطة على مشرحة الرواية
الإثنين، ١٩ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٥ (٠١:٠٠ – بتوقيت غرينتش)
فقد جيل الستينات في الكتابة القصصية والروائية، في مصر والعالم العربي، برحيل جمال الغيطاني واحدًا من أعلامه الأساسيين الذين عبّروا عن رؤية هذا الجيل للعالم، وجسّدوا صنيعهم الشكليّ الذي طوّر أساليب الكتابة الروائية والقصصية العربية في محاولةٍ للخروج من قبضة الشكل، بل ورؤية العالم، التي أرساها نجيب مخفوظ في نتاجه. فعلى رغم كون الغيطاني واحدًا من حواريّي محفوظ لفترة امتدت عقودًا من الزمن، كما أنه سجّل فصولاً من حياة محفوظ وتصوّراته ورؤاه في كتبه الحواريّة معه، فإننا نقع على رغبة واضحة في عمل التلميذ للخروج من سحر تأثير الأستاذ.
يمزج الغيطاني في عمله الروائي بين أنماط من المقاربة السردية، في محاولة للنظر، من زوايا عديدة، إلى موضوعه الأثير المتمثل في الكشف عن آليات عمل السلطة، ونقدها من خلال استحضار موازيات تاريخية لها. ويمكن القول إن رواياته: «الزيني بركات» (1974)، «وقائع حارة الزعفراني» (1976)، «الرفاعي» (1978)، «خطط الغيطاني» (1980)، «كتاب التجليات» (ثلاثة أجزاء، 1983- 1985- 1987)، «رسالة البصائر في المصائر» (1988)، وصولا إلى «حكايات المؤسسة» (1997)، تسعى في جوهرها إلى معرفة الكيفيات التي يتجلى فيها مفهوم السلطة بغض النظر عن الأزمنة والأمكنة وطبائع البشر الذين يمسكون بتلك السلطة، ويحرّكونها ويسلّطونها على رقاب العباد.
ولكي يحقّق تحوّلاً في الكتابة الروائية العربية، التي بدت في ستينات القرن الماضي أقرب إلى السرد الخطي التقليدي منها إلى الكتابة الروائية ذات السطوح الغنية المتعدّدة، القادرة على تنبيه القارئ بدلاً من تطمينه وتنويمه، تنبّه جمال الغيطاني إلى ما تنطوي عليه كتب التاريخ في العصور الإسلامية المتأخرة، وكتب الخطط كذلك، من مادة سردية يمكن النسجُ على منوالها، ومحاكاةُ لغتها بصورة ساخرة، وبناءُ عالم شبيه بعالمها. إن مشروع الغيطاني الروائي يقوم على إنشاء عالم مضى بانيًا على نتف من الأخبار والشخصيات كونًا من الأحداث والشخصيات والوقائع. توهم أعمال الكاتب قارئها بانتسابها إلى شكل الرواية التاريخية، بسبب القدرة على موضعة الشخصيات والأحداث والروايات في فضاء تاريخي محدد، رغم أن هذا الفضاء التاريخي مبتدع، ومعظم الشخصيات لا مرجعية تاريخية لها.
يصدق هذا الكلام على وقائع «حارة الزعفراني» و «الزيني بركات» كما يصدق على «خطط الغيطاني». لكن الزيني بركات هي الرواية الأكثر إثارة للجدل بهذا الخصوص لكونها انبنت على فقرة من كتاب محمد بن إياس «بدائع الزهور في عجائب الدهور». إن شخصية «الزيني بركات» مذكورة في تاريخ ابن إياس الذي يسجل وقائع هزيمة المماليك على أيدي بني عثمان، وهي في ما تشتمل عليه من خصائص، وصفات في الرواية، غير بعيدة من الشخصية المذكورة في تاريخ ابن إياس. لكن إعادة بناء الشخصية والفضاء التاريخي المحيط بها هو الذي يجعل من رواية الزيني بركات عملاً لا ينتمي بأية صورة من الصور إلى الروايات التاريخية. إن ما يقصد إليه الكاتب هو الإيهام بالانتساب إلى لحظة ماضية، ولذلك فهو يؤسس عمله على شخصية منتزعة من سياق هذا الماضي ويعيد بناء الشخصية ويؤثث الفضاء الجغرافي والتاريخي، الذي ربما تكون هذه الشخصية قد تحرّكت فيه، بما يوهم بوجود الشخصية في لحظة تاريخية ماضية.
والغاية من بناء هذه اللحظة التاريخية الماضية هي تقديم صورة الواقع الراهن بملابس عصر مضى ولغته ولهجته. وفي هذه النقطة بالذات يكمن نجاح رواية الزيني بركات وأهميتها على صعيد تطوير الشكل الروائي العربي. ولو تفحصنا المادة التي تتشكل منها الرواية لوجدنا أن الغيطاني يستخدم: خطاب الراوي، والتقرير، والمذكرة، والرسالة، والنداء، والخطبة، والمرسوم السلطاني، وفتاوى القضاة، جادلاً ذلك كله في شكل روائي دائري يبدأ في نقطة زمنية محددة ليعود إليها في نهايته.
تقوم الزيني بركات على تعددية صوتية تسمح لنا برؤية الأحداث من منظورات مختلفة. وهي تفتح فضاءها على أحوال الديار المصرية وقد اضطربت، والقارئ يرى هذه الأحوال من خلال عينيّ الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي الذي يصف القاهرة وأحوال أهلها بلغة تمزج بين التقرير واللغة المجازية التصويرية الموحية.
إن العالم الروائي في الزيني بركات يُعرض بسطوحه وأغواره، بعيون ترى هذا العالم من منظورات متعددة: بعين البصاص، أو مٌقدم البصاصين، أو زعيمهم، الذي يرى في مهنة البصاصة وسيلة إحلال العدل بين الناس، أو الثائر، أو الصوفيّ، أو المشاهد العابر. لكن الرحالة – المشاهد العابر يبدو قريباً من المؤلف بدلالة أن المؤلف وقّع باسمه في نهاية المقتطف الأخير من مذكرات الرحالة البندقي (جمال الغيطاني، الجمالية 1970 – 1971).
ما أريد التوصل إليه، من خلال هذا الاستعراض السريع للمادة التي تنبني منها رواية الزيني بركات، هو القول إن جمال الغيطاني يعمل على تطعيم الشكل الروائي الحديث بالمادة السردية التراثية. إنه يقوم بتهجين هذا الشكل بمواد غريبة عليه ما يفتح الرواية على عالم شديد الغنى والحيوية، بل على منجم من الأشكال، يعطي الرواية العربية بعداً أصيلاً متجدداً ويفتحها على آفاق رحبة من تطوير الشكل وتعميق الدلالة. وهو يتخذ، للتوصّل إلى هذه النتيجة، تقنية القناع أسلوبًا للتعبير عن الحاضر بتقديم صورة تراثية – تاريخية للواقع الراهن، من خلال ترحيل الحاضر إلى الماضي ورسم صورة ثابتة للقمع والسلطة.
إذا انتقلنا إلى عمل آخر من أعمال الغيطاني هو خطط الغيطاني فسنجد محاولة جريئة لإنشاء خطط معاصرة تستفيد من أشكال الكتابات التراثية وطرق توزيع العناوين الفرعية ووضع عناوين للفقرات، والإيحاء بفضاء تاريخي ينتسب إلى الماضي. ويعمل هذا القناع التاريخي في «الخطط» على شرح مراتبية السلطة وأسباب الصراعات فيها، وارتقاء بعضهم إلى هرم السلطة وتقهقر بعضهم الآخر ونزوله سلّم الهرم. وما يهمّنا هنا هو أن عمل الغيطاني يظلّ يتمتّع بالخصائص البنيوية للرواية. ثمة في خطط الغيطاني سردٌ خطّي وشخصيات لها خصائصها البنيوية المستقلة عن بعضها بعضاً، كما أن الشكل التراثي التاريخي هو مجرّد قناع يتمرأى من خلاله الحاضر الأبدي لسلطة القمع التاريخية. إننا نعود مرة أخرى إلى مبدأ ترحيل الحاضر إلى الماضي وإخفاء التجربة الراهنة خلف قناع التاريخ. لكن العمل الروائيّ لا يصبح بذلك عملاً روائياً تاريخياً. إن التاريخ ليس موضوع أعمال الغيطاني بل هو الستارة التي يصطنعها الروائي ليخبّئ خلفها وجه الواقع البشع.
في «كتاب التجليّات» نعاين تمزيقاً تاماً للشكل الروائي الأوروبي. إن «التجليّات» عمل قريب من الكتابة الروائية، لكن يصعب إطلاق اسم الرواية عليه لغياب العناصر الشكلية الأساسية التي نعثر عليها في أي نص روائيّ. إنه تأمّلات صوفيّة – وجوديّة تسكن الزمان الماضي والزمان الحاضر، وتقوم برحلة من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى الحاضر. إنها شيء يشبه كتابات النفّري وابن عربي موشحة ببعض الفقرات السردية التي يطل من بين سطورها وجه والد الراوي، ثم وجه جمال عبد الناصر، حيث يصبح تبادل وجه الأب ووجه عبد الناصر علامة على تماهيهما في وعي الراوي.
يقوم التراث في عمل الغيطاني بوظيفتين: الأولى هي لعب دور القناع، والثانية هي انتهاك بنية الشكل الروائي لتقديم مقامات وأحوال عصرية، أحوال ومقامات أرضية يضرع فيها الراوي إلى أشخاص أرضيين تختلط وجوههم بوجوه بعض، ويصبح الحسين وعبد الناصر ووالد الراوي تجليات لماهية واحدة. وهكذا يصبح التراث السرديّ، وغير السرديّ كذلك، عاملاً خلاّقاً توليديًّا، ووسطًا خصباً للتعبير الروائيّ العربيّ المعاصر، وباعثًا على انتهاك ما تواضعنا عليه في الشكل الروائي.