تريستان تزارا رائد الدادائية … في واجهة الشعر الفرنسي

a0f695eb0baf416cae3aa5495de07db9

١٠ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٥ (٠١:٠٠ – بتوقيت غرينتش)،جريدة الحياة
آخر تحديث: السبت، ١٠ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٥ (٠١:٠٠ – بتوقيت غرينتش)

ما أن نذكـــر الحــــركة الدادائية حتى يحضر إلى ذهننا اسم الشاعر الروماني تريستان تزارا (١٨٩٥ – ١٩٦٣). لكن الإرتباط العضوي لإسم هذا العمـــلاق بالحركة الطليعية المجيدة التي أسسها عام ١٩١٥، ونشاطه التحريضي والفضائحي ضمنها، ثم ضمن الحركة السوريالية، طغيا على إنتاجه الشعري والنقدي الذي لم يحظَ حتى اليوم بالاهتمام الذي يستحقه، على رغم تثويره بعبقرية نادرة الكتابة الشعرية باللغة الفرنسية التي تبنّاها فور مغادرته بلده، ووضعه نصوصاً نقدية مرجعية في ميدان الفنون التشكيلية.

ولتبديد بعضٍ من هذا الجهل الذي يلفّ تزارا الكاتب، ينظّم متحف ستراسبورغ للفن الحديث والمعاصر حالياً معرضاً ضخماً حوله يقترح على زواره قراءة معمّقة لأبرز نصوصه من خلال عرضها وفقاً لتاريخ صدورها، وبرفقة ٤٥٠ عملاً فنياً تعود إلى عشرات الفنانين الكبار الذين كتب عنهم وصادقهم طوال حياته، مثل هانز آرب وبرانكوزي وفيكتور برونير وماكس أرنست ومارسيل دوشان وجياكوميتي وبول كلي ومان راي وخوان ميرو وفرنسيس بيكابيا وإيف تانغي وسلفادور دالي وغيرهم.

لا شك في صعوبة كتابة شعر موزون ومقفّى، لكنّ الأصعب هو كتابة «نثر شعري، موسيقي من دون إيقاع أو قافية، وفيه ما يكفي من المرونة والتقطّع حتى يتكيّف مع الحركات الغنائية للنفْس وتموّجات أحلام اليقظة وانتفاضات الوعي» (بودلير)، وثوري بتمزيقه قواعد النحو. وهذا ما أنجزه تزارا الذي دخل ميدان الشعر بصخب كبير، وعلى لسانه الشتيمة، وحافظ – وهنا تكمن معجزته – على هذا المستوى العالي من التمرّد حتى رحيله. ولا نقصد بقولنا هذا أنه التزم بصرخة وحيدة، ممدداً صداها، ولم يغيّر طُرُق وأساليب قوله الشعري. بل هو على العكس، شارك في إيجاد شعر دادائي، ثم قدّم فيضه الإشراقي الخاص داخل الشعر السوريالي، قبل أن يضع نصوصاً جد شخصية في المرحلة الأخيرة، وذلك من دون أن يلتفت أبداً إلى الوراء، أو يقع يوماً في حبال قالب شعري مطروق، وبالتالي من دون أن يتخلّى عن العنف الثوري لبداياته.

ولكن ما هو مصدر هذه الثورة الدائمة لديه؟ في مدخل معرضه الحالي نشاهد مجموعة الرسائل التي كتبها الشاعر اللاتيني أوفيد بطريقة موزونة إثر اختباره المنفى في رومانيا، ثم جمعها تحت عنوان «حزينون». ومن عنوان هذا العمل وخلفيته استقى شاعرنا، الذي يدعى أصلاً صامويل روزينستوك، اسم Tristan Tzara الذي يعني بالرومانية «حزين في موطن الولادة»، ويمنحنا بالتالي السبب الذي دفعه إلى مغادرة وطنه التعيس، بعد أن حاول عبثاً زعزعة الجمود في وطنه من خلال مجلتين أطلقهما مع رفاق له في المدرسة.

القصائد التي كتبها تزارا بالرومانية، قبل انتقاله إلى زوريخ، لا تتجاوز الثلاثين نصاً وتحتل الصالة الأولى من المعرض. وفيها نستشفّ كتابة تجريبية محمولة بنفَس طليعي، علماً أنه يمكن تقسيمها إلى قسمين: قسم ميتافيزيقي غنائي يعبّر عن الشعور بمأسوية الحياة، وقسم يأتي على شكل مرثيات تقارب مواضيع مختلفة، كالخطيبة المتوفاة وهاملت محاوراً الغيوم، ودون كيشوت. والمثير في هذه النصوص هو تقنية الاختطاف (détournement) التي اعتمدها الشاعر للسخرية من التيارين الرمزي والرومنطيقي.

في الصالة الثانية المرصودة للمرحلة الدادائية، يتبيّن لنا أن تزارا، الذي ركّز نشاطه على الفعل المباشر والفكر الآني، لم يهمل الكتابة الشعرية، بل استعان بها لخطّ بيانات حركته السبعة، الصاعقة بامتياز، وأيضاً للتعبير عن وعيٍ اختبر بعمقٍ العزلة والسعادة واستحالة غدٍ واعد وصارخ في آن واحد. ومن خلال هذه النصوص، يتجلى كشاعر غنائي وقلِق، وكرجل يضحك ويتألم بالكلمات.

وتكشف الصالة الثالثة كيف سعى تزارا، بعد وفاة الدادائية، إلى كتابة شعر هو عبارة عن محاولة لاستبقاءٍ جدلي لهذه الحركة، ما يفسّر تلك القطيعة – الغنائية وتلك الثورة المصبوغة بالكآبة في قصائد هذه المرحلة، علماً أنه، حتى صدور مجموعته الأهم «الرجل التقريبي» (١٩٣١)، عبر مرحلة عزلة شعرية فسّرها لاحقاً بقوله إنه كان يبحث عن رفاق درب، وحين وجدهم تبيّن له أنهم دون المستوى الذي كان يتوقّعه منهم، فانطوى على نفسه وعاش كذئب مستوحش. ولا شك أن رغبته في تحديد أرضيته ومتطلباته وقيمه هي التي دفعته آنذاك إلى جمع البيانات الدادائية في كتاب. وعن المجموعات الشعرية الثلاث التي صدرت في تلك المرحلة، يمكننا أن نقول أنها تقع بين تفكيك دادائي ووحي سوريالي محرّر من أي ضابط، وتعكس بمضمونها صورة رجل يسير وحيداً مستكشفاً الفضاءات الداخلية ومسجلاً من حين إلى آخر عودة إلى حقبات تاريخية قديمة كان الشعر فيها يسيل من منابعه.

وعلى جدران الصالة الرابعة، نقرأ أقوالاً وتصريحات عدة لتزارا تعكس طبيعته كشاعر قبل أي شيء، وبالتالي تأمّلاته في قدَر الشعر ووظيفته، كما في قوله: «أعتبر أن الشعر هو الحالة الوحيدة للحقيقة الآنية. أما النثر، فهو نموذج الرضوخ للمنطق والمادة». تأملات بلغت أوجها في مجموعة «الرجل التقريبي»، حيث يشبّه تزارا الشاعر في النشيد الأخير بـ «راعي الضياء الشاسع» ومنظِّم اللغة الساهر في «المراعي السماوية للكلمات». ونعرف أن قراءة بروتون لهذه المجموعة هي التي دفعته إلى القول في «البيان السوريالي الثاني»: «نؤمن بفعالية شعر تزارا ونعتبر أنه الوحيد، خارج الحركة السوريالية، المرسّخ حقاً في زمنه».

أما الصالة الأخيرة فرصدها منظمو المعرض إلى دواوين تزارا الأخيرة التي تشهد بدورها على بقائه في مستوى نبوغه الباكر. إذ حين نقرأ نصوصها نستشعر الطاقة المسيّرة في قصائده الدادائية ووقاحتها والتفاؤل المدمِّر لمرحلة صباه، وإن خفت قليلاً الجانب الصاعق والعنيف فيها لصالح نضجٍ واضح. نصوص تستعين لتعقّب منحنيات خياله الجامح بالايقاع السجعي وتداعي الصور وانزلاق الألفاظ، أي بالأدوات نفسها التي كتب هذا العملاق بها الشعر طوال حياته.