أنساق القصيدة الذهنية في (الحياة بالنيابة)
بتاريخ : السبت 25-01-2014 01:32 مساء، جريدة المدى اليومية
زهير الجبوري
في إطلالة متأنية لتجربة الشاعر علي محمود خضير وهو يقدم مجموعته الجديدة (الحياة بالنيابة)، فإننا امسكنا بخيوطها وهي تقوم على بناءات نسقية للّغةٍ شعريةٍ لا تخرج عن اطار الصورة الذهنية المشبعة بتأملات وهواجس عالية، بل نشعر في مناطق متباعدة في قصائد المجموعة ما يكرس تلك الحالات بقصدية البناء ومهارة الصناعة الشعرية، ما يثير تجربة الشاعر
انه وقع في فخ الأبوة الشعرية التي طرحت كخطاب ثقافي في العقود الماضية، بخاصة العقدين الستيني والسبعيني، غير ان ابناء جيله جربوا انواع الكتابات الشعرية، حتى التجريبية منها، والبعض منهم ركز على مضمون القصيدة النثرية المعاصرة..
تتضح رؤيا الشاعر في جميع قصائده على دلالات ملموسة وفاعلة، بل تأخذ تناسقها اللّغوي على انها لا تنفصل من وحداتها الجملية، ولا تغور بتفاصيل مقننة لثورة القصيدة الآن، انما تأخذ منحى تراتبياً محافظاً، مع حضور فاعلية وهيمنة الـ(أنا) العاكسة على ذات الشاعر، وهو بذلك يحيلنا الى مشروعه بهيمنة المعنى المحمل بدلالات النص القرآئي، وبنسيقة مشبعة بما هو جمالي، او بذوقية تأملية / انعكاسية ـ بحسب غاداميرـ.
مثل الطريقة التي اعتمدها (علي محمود خضير) في تجربته هذه، فإن هناك عناصر تلتحم في وحدة الجملة الشعرية لديه، هي:
1ـ اللغة ومفارقتها وطريقة صياغتها.
2ـ المضمون وما يحمله من دلالات المعنى.
3ـ النسق وتعدد البناء النصي.
من هذه، تقترب سمات القصيدة بدلالات ذهنية مجردة، رغم الابتعاد عن ملامح الغموض والتعقيد، بل تميزت بوصفها سلسة القراءة، والاقتراب الى المتلقي، ولعل الارض الخصبة في التجديد والابتكار اذا ما قام الشاعر على اثارة ما مسكوت عنه في بنية القصيدة المتداولة..
ـ1ـ
في بنية اللّغة الشعرية وصياغتها، تظهر بعض القصائد على درجة عالية من المفارقة الداخلة في عمق المضمون الشعري، والتي شكلت فضاءً شعرياً انفتح على ذهنية الصورة المكثفة، فالقصائد (خطاطة أولى.. الحياة بالنيابة.. الذي يمشي في رأسك.. لا فكرة عن الوهم)، تكشف عن مدى قدرة الشاعر على خلق معاني نمسك بها من خلال فعل القراءة المعمقة لقصدية المعنى، نقرأ في (خطاطة أولى):
أنت، يامن تشبهني
ولا أعرفك..
لك كلّ هذي الرسائل والخطاطات
كي لا نظل وحيدين.. في مركب العالم.(ص11).
تتخذ القصيدة هنا شكلها اللّغوي الواضح والمطل على الآخر عبر تهويمات اغترابية وفنية معاً، فـ(أنت.. تشبهني.. لا أعرفك)، فبركة لغوية، خلقت مفارقة في المعنى، وأوضحت مشهداً متنامياً لشكل القصيدة المحكومة بحبكة اللّغة الشعرية الصرفة، وكذا الحال نقرأ في المقطع الأول من قصيدة (الحياة بالنيابة) ـ عنوان المجموعة ـ:
هذه أغلالك التي تطير بها
هذا سَمّك الذي تمنو به
هذي إشاعتك التي تنجو لأجلها
أنت تعيش حياتك بالنيابة.(ص15)
ثم نقرأ بعض العبارات في المقاطع الأخرى من القصيدة (تخون نفسك.. تخون ضوء الشمس.. تخون القطة التي تموء)، ثم حكمة القصيدة (أفضل خياناتك / انك ترى العالم كما تشاء / لا كما هو..). (ص18).
نلمس كيف ان اللّغة الشعرية اشتغلت على عناصر البنية التي قصدها النص الشعري ذاته، والتي أفاضت فعل التكرار للآخر المؤول على الـ(أنا الداخلية) او (أنا الذات الشعرية)، المهم ثمّة حركة فعلية بنائية من قبل الشاعر، بخاصة اذا ما علمنا ان ثمّة انفعالات خفية نمسك بها داخل نصوص الشاعر..
ـ2ـ
فيما يخص قراءتنا لمضمون المجموعة، فهي تبين قصدية البناء الموضوعي المطل على انعكاسات ذاتية/انفعالية، لكنها اغترابية، ولهذه السمة ابعادها السسيو/سايكولوية، فالشاعر اعتمد القصيدة للتعبير عن ذلك، لا أعرف ان كانت المجموعة هي مشروعه الإسقاطي لذلك، أم انها دخلت بـ(لا وعيه الشعري)..؟. اننا امسكنا ببعض القصائد وقمنا بتحليلها بالطريقة التي ارتأيناها، فجميع القصائد احتكمت ما بين (الخطاطة الاولى)ـ كمدخل استهلالي ـ، و(الخطاطة الأخيرة) ـ كنص اختتامي ـ لإنزال الستار عن تجربة غنية بمهارة شعرية عالية، نقرأ في نص (خطاطة اخيرة):
أنت.. يا من تشبهني
هل عرفتني الآن
دع الخطاطات.. لا أريد مركب العالم
فقط.. قدني إليك.(ص103).
تلتقي خطاطة الشاعر الأخيرة مع باقي النصوص الأخرى التي احتكمت نفسها بتراتبية متناسقة، فـ(الآخر) المحاكى، هو (آخر) اشكالوي، ظهر في مساحة داخل قصائد المجموعة، فالادوات (أنت..هل.. دع.. قدني) ضمائر وافعال يكررها الشاعر دائما، ولتعميق قراءتنا في الجانب المضموني، نقرأ في قصيدة (خادم الحياة):
أنا خادم الحياة
كلّما ألقت عليّ حجراً
أَفردت ذراعيَّ من دون احتجاج
وكلَّما شكّت نافذة إبرة
رسمت مسافة للقادمين برفقتي..(ص83).
ثم تتكرر فاعلية الـ(أنا) بجمل أخرى تمسك بوحدة القصيدة، (أنا خادم الحياة)و(أنا خادمها الذي لا يئن) و(الأنين خادم يبكي) و(الأنين أنا وأنت)و(ألم أقل إني خادمك ايتها الحياة الجاحدة)، هذا الاحتشاد، محكوم بصوت الشاعر وهو يلح بتلويناته الانفعالية والاغترابية، الأمر الذي أظهر شعريته بالشكل الذي قرأناه..
ـ3ـ
لم تكن قصائد (الحياة بالنيابة) ساكنة او خاضعة لنسق شعري واحد، انما هناك صياغات جديدة أبانها الشاعر بغية الوصول الى تنويعات أدائية مختلفة، بمعنى ان هناك نصوصاً حملت مزايا فنية مختلفة عن غيرها، منها ما تمتعت بـ(لازمات) مقطعية، ومنها ما بانت على صياغات الضربة الشعرية ذات المنحى الدرامي التي تتمتع بخوط التوتر والحوار والصراع، وما الى ذلك، ومنها ما هو كاشف عن اسلوب نثري معاصر، ومنها ما يبين كل ذلك، كما في قصيدة (تفاحة خضراء)، نقرأ:
فيما نقضم اللّيل كتفاحة..
هل أحدثك عن الأمّ..؟
عن الضوء الخفيض في زاوية قلبي المثقوب كالينابيع..
عن اللّيالي التي قضيتها هناك، فارشا أحشاءها كما أشاء؟(ص53).
(ثم بعد ذلك):
كنت رساماً جيداً..
وكانت الريح عمياء.(ص59).
هذا التنوع والتعدد النصي في سياق القصيدة، شكّل فعل التنامي الذي بحث عنه الشاعر علي محمود خضير، بغياً منه تقديم قصيدة جديدة، فبعد الحداثة الاولى (نهاية الاربعينات وبداية الخمسينات)، وبعد الثورة الثقافية في العقد الستيني مرورا بالعقود الاخرى، هل سنبشر بقدوم جيل شعري يلبس الشعر العربي ثوباً مغايراً، هذا ما سننتظره، وما يطمح به شاعر الحياة بالنيابة..؟.