محمود درويش.. قراءة ثانية النموذج الدرويشي
هل نعيد قراءة محمود درويش أم يتراءى لنا أننا قرأناه بما فيه الكفاية. قرأناه من دون أن نقرأه. قرأناه كما نسمع نشيداً وطنياً. لا عدد للمرات التي نسمعه فيها، ترانا سمعناه فعلاً، أم كان ذلك جزءاً من ركام تمتلئ به حياتنا بعدد الأيام التي عشناها لكن بدون أن ننتبه لها. على الأقل بدون أن نشارك فيها. إنها الحياة تعيش نفسها لكن من دوننا. يبقى السؤال نفسه، هل قرأنا محمود درويش فعلاً، أم أن ذلك كان ترتيلاً وتجويداً فحسب، لقد امتحنا أصواتنا، امتحنا ملكاتنا، أمتحنا تعاطفنا وحنيننا وقدرتنا على التغني من غير غناء، قدرتنا على الغناء خارج أنفسنا. هل كان شعر محمود درويش أكبر من أن يقرأ. هل كان محمود درويش أكثر من أن يقرأ، هل كان فقط يقرأ وسط الجمهور وبنزعات الجمهور ولا إمكان لأن نقرأه منفردين، هل استحق محمود درويش بعد وفاته أن يكون أكبر من شعره، وأن يكون بشخصه قضية فحسب، قضية تستخدم الشعر وتوظفه فحسب وأثناء ذلك تلينه وتطريه وتجعله سلسلاً سائغاً، تجعله قابلاً للتغني والإنشاد، تجعله فقط قابلاً للتداول والتبادل والجمع، وتجعله قابلاً لأن نشتاق معه إلى شيئنا المفقود، ونحنّ إلى ما ينقصا، إلى النقصان الدائم والكينوني.
علينا أن نبدأ من الألف أو من الصفر. أن نقول إن محمود درويش شاعر أولاً وليس مديحاً له أن نقول إنه أكثر من شاعر ولا أن نعتبره شاعراً قبل أن يُقرأ، وبدون أن يقرأ، لنعد إلى الألف أو لنقل إن محمود درويش شاعر ليس مؤسساً فنحن لا نستطيع بسهولة أن ندرجه بين الرواد، رواد القصيدة الحديثة، بل لا نجده حتى مجايلاً لهؤلاء الرواد فرغم ان الفارق العمري ليس واسعاً، إلا ان محمود درويش من الجيل الثاني في قصيدة التفعيلة، نستطيع أن نقول إنه لم ينشغل بها ولم تشغله مسائلها النظرية. لقد وجدها أمامه كما وجد أمامه تجارب فيها، وبدأ ليس من أكثر مناحيها ابتكاراً وليس من أكثرها جدة، وليس من أضيق أبوابها ولا أشدها صعوبة وتمكناً، الأرجح أن محمود درويش إذا أمكن رده إلى شاعر حدث فلن يكون الأكثر حداثة، ولن يكون الأكثر انشغالاً نظرياً ولن يكون الأشد تجريبية، لن نجد السيَّاب ولا أدونيس ولا عبد الصبور ولا حتى سعدي يوسف في شعر درويش. سنجد انه بدأ من مكان أكثر تبسيطيه وأكثر إسلاساً وأكثر تواصلاً مع التقاليد، أكثر هامشية بل لا نبتعد إذا قلنا إنه الأكثر شعبية بمعنى أنه الأكثر قرباً من المشافهة وأكثر اتصالاً بالموضوع أو انصباباً على موضوع، بمعنى ان التداعي الدرويشي يبقى في بؤرة واحدة ويتناول مع قدر من التشتت موضوعاً، إنها قصيدة / موضوع إذا صح القول. يكفينا أن نضرب مثلاً على ذلك هو جدارية محمود درويش، الجدارية قصيدة تسترجع تجربة كان فيها محمود درويش بين يدي الموت، وخرج منها بحوار مع موته. النص الذي يستغرق كتاباً كاملاً هو بكامله في هذه البؤرة وهو يتوسع ويتشتت فيها وحولها. قد نجد شبهاً لذلك في قصائد العراقيين السيَّاب وسعدي وقد نجده في قصائد الشعراء الذين لم يبتوا تماماً صلتهم بالتقليد الشعري، لكن شعر محمود درويش الأول لم يلتق بالقصيدة الحديثة في أشعار القصيدة الشاملة التي تستدعي اللغة كلها، القاموس كله والرؤيا كلها والكلام كله في نوع من الانتشار الفلكي والواحدية الإيقاعية. لم يلتق محمود درويش بالقصيدة الحديثة على هذا الطريق. لقد وجدها في أكثرها سردية وتبسيطاً ومباشرة ولنقل وشعبية. الأرجح أن محمود درويش لم ينف تأثره بنزار قباني. ولنقل تأثراً بقدر ما يمكننا أن نتكلم هنا عن النموذج القباني. هذا النموذج الذي لم يقلده درويش بقدر ما بدأ منه، كان يتيح للشعر تعاطفاً مع الشفاهي والتجربة المباشرة وقرب المأخذ والانشغال بالتفاصيل والمادية المتكتلة. لا نقول إن محمود درويش قلّد أو تأثر بنزار قباني. لا بد أنه وعى باكراً ضحالة النموذج القباني وشعبويته المفرطة ولم يكن هذا مراده من الشعر. لقد تأمل هذا النموذج واشتغل عليه بحيث أخرجه من جموده ومن ركاميته ومن خطابيته ومباشرته المفرطتين. أخرجه بالطبع من شعبويته الأيديولوجية ومن صنميته الفكرية وشعاراتياته ودارجه السياسي. محمود درويش كان بالتأكيد أنبه وأكثر موهبة من أن يقع في صنمية وخطابية وشعاراتية نزار قباني. كل ما في الأمر ان محمود درويش عثر في نزار قباني على النموذج الذي يشتغل عليه، ويعيد صياغته وصناعته ويقوم بتحويله وإزاحته وبنائه على نحو آخر ومن جديد. النموذج الدرويشي لذلك وإن وشى بالمنبت القباني إلا انه نموذج درويشي بكل معنى الكلمة، يمكننا القول إن درويش وقع على أقل النماذج الحداثية هماً حداثياً فقام، وهنا السر الدرويشي، قام بتحديثها. لم تكن النماذج الحداثية الخالصة ملائمة للنمط الدرويشي فشعر درويش يقيم وزناً للموضوع والحياة الشخصية والكلام الشفوي وتفاصيل الواقع، وهذه لم تكن موفورة في معظم النماذج الحداثية، كان على محمود درويش ان يبدأ من خارجها، ان يبني نموذجه على اكثرها طواعية وأكثرها قابلية للتحويل. هكذا أنبنى النموذج الدرويشي من إزاحات شتى لملاحظات وأفكار وتفاصيل ووقائع وسرديات. على ان موهبة درويش هي في تلك القدرة على البناء من كل ذلك وعلى صب ذلك كله في نموذج تتعدد مستوياته لكنها أيضاً تندرج وتتسلسل وتلتحم في بعضها بعضاً.
-
«مهرجان أثينا للشعر العالمي» القصيدة في الشارع وللجميع
-
«كلام يعنيني» لعصام التكروري.. إحداثيات المجزرة
-
«صلاة لبداية الصقيع» الشاعر متكئاً على ظلال الأشياء في الكلمات
-
خزعل الماجدي: الشاعر لا تعوزه الكلمات، تعوزه النوافذ
-
سرجون كرم.. على الجيل الماضي إبداء رأي في الشبان