محمد الفيتوري شاعر الروح الأفريقية المعذّبة
«عرياناً يرقص في الشمس» هل يمثل جوهر تجربته؟
رقصُ العاري في الشمس يقطفه الشاعر محمد الفيتوري في ديوانه الجديد «عرياناً يرقص في الشمس»، ليسرّب صورة رقص طفل افريقي مولود للتو كجوهرة سوداء تلتمع تحت اشعة الشموس الاستوائية ترفعه امه بيدها هكذا، وترقّصه هكذا ايضاً امام الأشجار العملاقة وحراب الزنوج والأقنعة والوجوه المخططة بالألوان، حيث يتسيّد السحر، وتنبعث أنّات المعذّبين في جوف الغابات، وعلى ضفاف الأنهار. فثمة من يتربص بهذه البراءة السوداء، يقتلها او يقهرها ولا أستطيع ان أرى الفيتوري من دون افريقيا. إنه صوتها الحر المقهور والصارخ والمتلوّي في عذاباته، أو الهائم في تطوّحاته كدرويش متجول… وهو صاحب الصور الطوطمية، الممثلة لقوى غامضة وحضارات منسية، وأصوات ما فتئت تدوّي داخل رأسه وتجاويف عظامه.
ومجده انه صاحب الروح الشعرية والأسطورية لافريقيا، وحامل الطقوس الخفية للدراويش في رقصهم، وللجياع والمرضى والمعذّبين في صرخاتهم المكتومة والمصادرة او المنفجرة كصواعق. فصورة الشعرية التي تطلع من هذا الجوف الحار والخرافي هي هو… دعك من كلاسيكياته وتزكياته لبعض من حسبهم ابطال خلاص قومي او طبقي، دعك من الأمجاد الغابرة في بغداد او سواها، وأن فيهم «تسطع روح العروبة في الكائنات»، ومن هجائيات الاستعمار والخطاب السياسي الشعري المباشر «صعب وقوفك يا بغداد شامخةً/ كالشمس وحدك في شيخوخة الزمن… لا للصليبي في طغيان آلته/ تحت السماء وفي ايمانه الوثني»، ودعْك ايضاً من ولولته على القدس وهجائه العرب، واصطفائه بطلاً ما او فارساً ما ليُعيد لهم المجد القديم: «… ثم انبعثتَ بلى ثم انبعثتَ على درب النبيين لا تاج ولا لقبُ/ فارتجّت الأرض وانداحت معالمها/ وبوغت الروم والأتراك والعرب»… ففي مثل هذه «المربديات»، لا البطل هو البطل ولا الساحة هي الساحة ولا الزمان هو الزمان… مات المتنبي موتاً اكيداً ومات سيف الدولة موتاً اكيداً… دعْك إذاً من هذه الاستعادات الحماسية، فهي لفيتوري «آخر»… اما الفيتوري الحقيقي، فهو الذي يخاطبه هو بقوله «ابتسم ان حزنك اكبر منك/ وأعمق مما يرى الميّتون». وهو الراقص في حضرة من يهواه، العاصفة به اشواقه، المحدّق (كأنه وجه السحر) بلا وجه، الراقص (ولنعجب) بلا ساق. وهو الذي يزحم براياته وبطبوله أفق الرؤيا، وعشقُه يُغني عشقه، إنما يولد من جديد في فنائه، كعنقاء الرماد او عنقاء السواد، سلطان العشاق وطاووسهم وخادم المجاذيب والدراويش والمعذّبين في الأرض. والفيتوري في الشعر العربي الحديث والمعاصر، هو الدمغة النارية الحارة لوشم افريقي، في القصيدة. سر وصورة. طوطم. عذاب قديم ومخزون. صراخ من اقبية قهر سوداء… وشعره هذا يطلع من منبع السر والسحر والعذاب. كذلك لغته المشدودة المتوترة كزعقات نسور افريقية، او القارعة كطبول، او المركّبة من خلال صور يدخل في تركيبها الغموض والسر والقناع… حيث العتمة والليل والأشباح والوجوه الغامضة والوشم والخطوط على الوجوه.
ومن خلال صوره الشعرية الطالعة من مصهر افريقي، يلامس ارواح الشعوب، والشهداء، المعذبين… وضحايا النخاسة، من فيلكس دارفور الى اندريه بركون ولانغستون هيوز وايمي سيزار.يعلق الفيتوري على مشجب الشمس الافريقية ما يشبه اكفاف القصيدة، ويستنطق الروح الحية في الكائنات السود، في اشجار الغابة، والزنوج العبيد، والوجوه المطلية… وفي نشيج المستعبدين والمهدورين من ابناء القارة السوداء.
«هي ذي الشمسُ/ راهبة الجزر القرمزية/ تدفن في غابة الليل ازهارها/ وتقيم قداديسها/ وتعمّد جدران مثلثها بالدماء».
يصور الشاعر الحرية «مفقوءة العينين»، والعدل كسيحاً «بلا ساقين». ومن خلال قصائد ذات انشاد غنائي، وقصائد ذات سيولة تعبيرية، يندرج كواحد من الشعراء السياسيين, ويكمل عقد امثال الجواهري والبدوي وأبو ريشة، من حيث النبرة الاتهامية العالية، والعبارة المباشرة، والتفجّع القومي والوطني والخطابية، وهي قصائد بالموزون المقفّى، وهي، في نظري، ليست هي الفيتوري، كجوهر شعري، لأن الفيتوري في مكان آخر.والجوهر الشعري الذي أعنيه هو الدمغة التي تميّز الشاعر. هي خصوصيته التي ليست لسواه. هي وجهه الحقيقي بلا مساحيق واستعارات. هي الصور والعبارات والاستعارات والرموز والتراكيب التي هي له، وهي هو، دون سواه. وبالتالي فالجوهر الشعري هو الأسلوب وهو الرجل.تبعاً لذلك، فإننا لو بحثنا عن الفيتوري في مجموعته الأخيرة، فإننا سنجده من حيث هو هو، في قصيدة واحدة كاملة مكتملة هي «عرياناً يرقص في الشمس».
في القصيدة روح بدائية متشكلة من خلال شكلها الحي/ الميت الحي/ في القرابين الافريقية والأقنعة… نعثر على صور بدائية وطوطمية كعيون الدمى، وطيور الدجى، والعظام الموشومة بالحفر، وأذرعة الغارقين والعواصف والصلوات المتداخلة مع اصوات الغابات… وأشباح الآلهة، والراقصين، والنيران المشتعلة في رؤوس الجبال، ودماء القرابين.
هذه العدة التصويرية والتعبيرية للفيتوري ترسم ملامح وجهه الخاص ونكهته الافريقية المميزة في الشعر. وهو قادر على ادارة هذه الصور، في فضاء القصيدة، قدرته على ابتكارها من الدم الأول للإحساس، وغريزته الفطرية التي تكونت مع خلاياه الأولى كطفل من افريقيا، كوراثة، كجينات خاصة جبلت ألوانها السود بمخزون طويل من السحر والقهر والعذاب والثورة.
«لم تجئ مثلما حلمت بك دنياك/ قبل انطفاء عيون الدمى/ واشتعال جلود القرابين/ جئت سماء من الشفق القرمزي/ عرياناً كالشمس/ مختبئاً في معانيك/ خلف زجاج العيون ومنحنيات المرايا/ مثل روح بدائية/ لبست شكلها الميت الحي/ ثم مضت تتحسس غربتها/ في وجوه الضحايا/ مثلما انحفرت في عظامك/
اطياف ماضيك/ مثل طيور الدجى الاستوائي/ مصطفّة كلماتُك فوق مقاعدها الحجرية/ شاخصة فيك/ فاتحة صدرها للمنايا».
يذكر الفيتوري في القصيدة ايضاً «الطحلب الميت» الذي ينبت فوق السقوف ويتسلق الجدران الى الشرفات والحناجر المكتظة بالدماء، كما يذكر إغماء الراقصين على الطرقات وقد طوقت الأغلال اعناقهم وأرجلهم والتعاويذ المعلّقة في الرقاب والوشم على الكتفين والطقوس القديمة، اضرحة الرخام، والعظام، والآلهة وأشباحها. وهو يسوق خطاباً شعرياً الى «آخر» هو على الأرجح نفسه، ذاته الشعرية. فهو المخاطبُ والمخاطب في القصيدة، وضمير المخاطب، هو ضمير المتكلم. فيأتي السياق الشعري في صيغة من يكلم نفسه، ويأتي متوتراً صورياً سحرياً من دون هوامش ولا تفجّع سوى التفجّع الداخلي، وبلا موعظة، وبلا حماسة افسدتها السياسة، وجعلتها مركومة وماضوية ولا يحيي عظامها وهي رميم، لا نداء ولا بطل. فالنداء مجروح، والبطل مزيف، لا سيما ان الفيتوري نفسه سبق أن صرخ في قصيدته القديمة المعروفة في الزعيم الشيوعي السوداني الذي شنقوه، عبدالخالق محجوب: «لماذا يظن الطغاة الصغار/ وتشحب ألوانهم/ ان موت المناضل/ موت القضية…/ كلما زيّفوا بطلاً/ صحت: قلبي على وطني».
إن المستوى المكشوف والتحريضي أو التفجّعي للشعر في هذا المقطع، هو ادنى «في الجوهر الفني للشعر» من روح التفجّع الخفية في الصور الطوطمية والأنين المخنوق للشاعر. فالألم المخنوق اصعب وأمرّ وبالتالي اجمل، من الصراخ والتعليم.
يكتب الفيتوري بصوره وأوزانه الشعرية، وبأسراره وطواطمه، قولاً شعرياً خاصاً ومتميزاً، فيه من السحر بمقدار ما فيه من السر، وفيه من الطوطم بمقدار ما فيه من الألم، وهو استنباط صور وطرديّات طالعة من اصل الشعر في الجينات التكوينية، في اللون والمكان والزمان، وهي افريقية، وفي العذاب وهو افريقي، وفي الشطح ايضاً، وهو ايضاً من هناك.
* محمد علي شمس الدين – الحياة