بطل أوبير حداد برأسه … وجسد سواه
الخميس، ١٠ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٥ (٠١:٠٠ – بتوقيت غرينتش)
في سياق مواجهته للأسئلة الأخلاقية والوجودية التي يطرحها التطوّر العلمي اليوم، لطالما دفع الكاتب الفرنسي (من أصل تونسي) أوبير حداد الحقيقة ـ الخرافة إلى أقصى حدودها. ولا شك أن لجوءه إلى سلطات الخيال للإمساك بتعقيدات حقبتنا والتباساتها هي الميزة الأولى لعمله الروائي؛ ميزة تتجلى بقوة في روايته الجديدة التي صدرت حديثاً عن دار Zulma الباريسية بعنوان «جسد مرغوب».
موضوع هذا العمل المثير استقاه حداد من المحاضرة التي قدّمها الجرّاح الإيطالي سيرجيو كانافيرو قبل فترة في مؤتمر طبّي وسعى فيها إلى إثبات توافر الإمكانات التقنية، انطلاقاً من عام ٢٠١٦، لزرع رأس إنسان في جسد إنسان آخر، شرط تأمين التمويل الضروري لعملية جراحية من هذا النوع. «جنونٌ سيسمح للأشخاص الذين يعانون من شلل رباعي بالسير، وللعقول الأكثر نبوغاً بتجنّب الموت»، وفقاً لكانافيرو. وقد أثار هذا التصريح، بتلميحه إلى أن العقل لا يشيخ، بالتالي إلى اقتراب تحقيق حلم الخلود، موجة من الشكوك والتساؤلات الأخلاقية تجاوزت العاملين في المجال الطبي.
ولاستكشاف نتائج هذه العملية الجراحية على مَن يخضع لها، تبنّى حداد فكرتها وطبّقها في روايته الأخيرة. بطل الرواية، سيدريك ألين ويبيرسون، هو ابن رجل ثري يملك مختبرات للأدوية. بعد طفولة سعيدة، تنقلب حياته رأساً على عقب إثر انتحار أمه بقفزها من نافذة المنزل تحت أنظار زوجها، ما يدفعه إلى قطع صلاته بوالده وتكريس وقته لكتابة مقالات نقدية محكمة حول الشركات الصناعية المشبوهة، وفي مقدمها شركات الأدوية. ولأنه اعتمد في حياته الجديدة ومقالاته اسماً مستعاراً (سيدريك إيرغ)، تبقى هويته الحقيقية مخفية على الجميع، بما في ذلك على الصحافية الجميلة لورنا لير التي تشاركه حياته.
ولكن خلال رحلة سياحية إلى اليونان على متن مركبٍ شراعي، يصاب سيدريك بشلل رباعي إثر تعرّضه إلى حادث، قبل لحظات على رفض لورنا الزواج منه، على رغم حبّها الشديد له. وبما أن طبيباً إيطالياً يدعى جورجيو كادافيرو كان يبحث عن مريض مثله لإجراء أوّل عملية زرع رأس بشري، يقترح والد سيدريك عليه إجراء العملية على ابنه مقابل مبلغ خيالي من المال، بعد انكشاف هوية سيدريك على يد صحافي مغرم بصديقته لورنا. أما الجسد الضروري لهذه العملية فيعود إلى شاب تعرّض في الوقت نفسه لحادث سير أتلف كلياً دماغه، ولكن بقي جسده سليماً…
ثمة فكرة جوهرية يسيّرها حداد في روايته ومفادها أن الإنسان ليس مجرّد عقلٍ أو ذهنٍ صافٍ، ولا مجرّد جسد برغبات وإفرازات مختلفة، بل هو ثمرة حوار مثير بين هذين الكيانين. ولذلك، يقود زرع رأس بشري على جسد غريب، حتماً، إلى تساؤلات تتعلق بإدراك الذات والهوية وجوهر الإنسان وفردانيته. تساؤلات يصطدم سيدريك بها، وتبدو أكثر إيلاماً من جلسات التمرين البدني التي يخضع لها بعد العملية، ومن تأثير الأدوية الكثيرة التي يبتلعها لتدارُك رفض رأسه لجسده الجديد أو العكس. إذ كيف يتعامل ذهنه مع هذا الجسد الغريب، الأكثر شباباً وقوة وجمالاً من جسده الأول، الحميم؟ وكيف يتعامل هذا الجسد، الذي يتمتع بذكاء وذاكرة وحركات انعكاسية خاصة به، مع ذهن سيديريك؟ بالتالي، ما هو مصير ذكريات هذا الشاب مع جسده الأول، وأي قصة سيروي الجسد المجهول له؟
ومن جهة أخرى، كيف سينظر الآخرون إلى هذا الكائن الهجين الجديد؟ لورنا تستمر في حب سيدريك وفي ممارسة الحب معه، ولكن بشهوة واندفاع لم يعهدهما من قبل. وكذلك الأمر بالنسبة إلى أنانتا، حبيبة صاحب الجسد المجهول التي يلتقي سيدريك بها صدفةً، حين يتوجّه بغير إرادته إلى صقلية حيث تعيش هذه الشابة. وهو ما يقودنا إلى السؤال الأكبر: إلى أي حد يتحكّم سيدريك بخياراته؟ وعلى رغم إدراكه لأفعاله، يفقد الرابط مع الأسباب التي تدفعه إلى القيام بهذه الأفعال. هكذا، يختبر هذا الكائن انفصاماً مرعباً بين جسد شبقي وشديد الإروسية، وعقل يستنتج من دون أن يشعر أو يشارك في أفعاله، ما يحوّل فعل الحب إلى مجرّد أداء بلا رغبات أو متعة.
باختصار، أسئلة كثيرة مبلبِلة تستجوبنا في شكلٍ مباشر أو مضمَر طوال قراءة الرواية وتتركنا غالباً في حالة حيرة واضطراب، تصل أحياناً إلى حد الاشمئزاز. ولا عجب في ذلك، إذ ينجح حداد في جعلنا نختبر سير شخصيته إلى حافة الجنون، بفضل لغة شعرية مشغولة بدقة وتأنٍ، وأيضاً بفضل حبكة متينة ومشوّقة تستحضر مراجع أدبية وميثولوجية كثيرة وتثير تأملات ميتافيزيقية وسيكولوجية عميقة.
تأملات تتقاطر جميعها نحو عبرة واحدة نستخلصها بأنفسنا، وهي أن للخلود كلفة عالية: نسيان أصلنا وماضينا، والتيه في حاضرنا. وربما لذلك يحذّرنا الكاتب منذ بداية روايته بقوله: «لا معجزة ضد القدر المحتوم».
اللوحة للفنان سلفادور دالي