“السلالم الرملية” روايته الرابعة عشرة . سليم بركات ينظر الى الشرق في مرآة الغربة السويدية
المصدر: الحياة
الكاتب: أحمد عمر
تاريخ النشر(م): 6/5/2007
تاريخ النشر (هـ): 19/4/1428
منشأ: دمشق
رقم العدد: 16102
الباب/ الصفحة: 15 – آداب وفنون
لما حدد سليم بركات في رواياته العنيدة تخوم الحكاية وضفافها، فدأبه تضليل القارئ وديدنه هدايته إلى حافات المتاهة. وفي روايته الجديدة “السلالم الرملية” يتناوب السرد مكانان رئيسان مضفوران كجديلتين، مختتمان بمشهدين مستقلين مكانياً، احدهما هو إيوان تيغوتكين شاه، والآخر في دارة يالوه في السويد. المكان الأول، الذي يشبه المسرح بسبب”ثباته”، هو محطة أنفاق القطارات الحديثة في استوكهولم، مصعد الحضارة حيث الأدراج الآلية الصاعدة إلى منابت الحظوظ في عالم الأعالي واللوحات المضيئة. المكان يشبه”الصراط”الأخروي بمعنى من المعاني، حيث يعرض السرد شخوص الرواية المغتربين”أفراد عائلة يالوه – فقهاء الظلام الثاني بتعبير بركاتي – التي تنتظر المخلص في الأنفاق. كأن الكاتب يعرضهم لشفرة الزمن، للصراط المؤدي إلى فردوس الحضارة. بكلام آخر يقوم بركات بطريقته الفريدة بتشريح فظاظات”الضيوف”الشرقيين، بحق أنفسهم وحق مستضيفهم في مسرح الأنفاق. في النفق الأول” سودارمالم محطة الأقفال المهملة، حيث تصل القطارات مبشرة بـپ”اعتراف الكمال بين يدي الوقت الكاهن”يبدأ السرد مع الرجل الأنيق ابيريم بن يالوه، محدداً هويته الشرقية. ونعرف من مطارحات السرد وضبابه الكثيف، انه مهاجر أو منفي، وانه ينتظر مخلصاً من نسل الشرق الراكد في جرار المغول وتلك مفارقة كبرى وسوداء وقصوى، فالمغول الذين اجتاحوا العالم لم يعرفوا سوى السيف والدم. وسيستوقف بيريم النازلين عشوائياً سائلاً إياهم عن مخلصه المنتظر، المدعو إلى عشاء أبيه، فهو لا يعرف له علامة أو هيئة، والمخلص نفسه لا يعرف عنوان الضالين الذين سيهديهم، وتتكشف خدعة أناقة ابيريم الكاذبة وأدبه المخاتل عن خشونة وغرور عندما يقذف حمامة المحطة ورمز السلام بفردة حذائه الأسود المفلطح المقدمة.
في النفق الثاني، نفق فريدهيمسبلان، نجد نوهين بن يالوه ينتظر، وهو يدندن بمعاني الزمن ويحاول فقهه الزمن، برمته، خطأ في حساب لن يتم تصحيحه إلا بالنسيان. نوهين هو الشخصية الثانية التي تنتظر في نفق. كلهم ينشغلون بالرسوم الجدارية المتجددة في النفق- بذرتها الخام قبل التورية”اللوحات الإعلانية المترفة- عاجزين عن فهمها، وتتجلى لوعة نوهين الجنونية، وخيبته في الصراخ في الجمع المسافرين أعطوني نفقاً أوزعه بالأمتار على شعبي. في هياجه، تظهر نوازعه وآماله لا تنظروا إلى ساعاتكم، أخي ابيريم لا يحمل ساعة. ينهار نوهين بعد الخطبة في الحشد الذي تبتلعه القطارات أو الأدراج.
في النفق الثالث باغرموسن تتسوق الضرتان، زوجتا الأب يالوه سارها وميريما، وتنهمكان في شراء قائمة المواد اللازمة لعشاء المخلص المنتظر. تبدوان مرتبكتين خائفتين من نسيان حاجة من القائمة، ومشغولتين بالتعاتب. ميريما تعاتب سارها على تشبهها المستمر بها، وميريما تشكو مطاردة ابن ضرتها بارسيس، ابنها اكيلون. تبدي كلتاهما العجب من ثقل الرسوم بحار، كثبان، أمواج على الحائط المسكين.
في نفق سلوسن الرابع ترتيباً، تجري مطاردة بين اكيلون بن يالوه الأسمر من وبر الشمس شرقي وبارسيس بن يالوه الهارب من سلاح أخيه العتيق والقاتل، اكيلون خائب من قلة فهم أخيه لرسوم الحضارة الغربية. الصراع سببه الإخوة فحسب فالإخوة سوء فهم، هكذا هي أبداً منذ قابيل وهابيل. بينهماحوار لكنه بالألفاظ لا بالإفهام لماذا أصغي إليك وأنا موقن انك لا تخاطبني؟. المطاردة الفظة تثير هلع المتنقلين بين الأدراج والمحطات. يحاول بارسيس ثني أخيه عن مزاحه الثقيل، على الأقل في هذا الوقت الذي سيصل فيه المخلص إلى عشاء ابيهما، والذي يجدر بهما إبداء مقدمات الهداية أو الهدوء لكن بارسيس يستمر في المطاردة. يسرّ الأخ الهارب للأخ الصياد انه لن يقدر على قتله إلا إذا أطلق سهمه على عظام الرضفة في ركبته اليسرى، في تذكير غير مقصود بأخيل طروادة، هذا التذكير يكشف عرضاً مذهب بركات في ابتداع شخوص روايته بارسيس من باريس، اكيلون من اكيل.
على باب نفق هوفودستا الخامس يجري حوار بين الأختين”العشرينية سالوميا وهيد جيرا الغضوب المشككة في أن الرجل الكهل، رسام النفق، يرسمها. تحاول الأخت الصغرى إقناعها بأن رسامي الأنفاق لا يرسمون إلا من يدفع لهم. تتجاوز هيدجيرا آداب الانتظار في الأماكن العامة فتدخن، غير عابئة بقطارها الذي فات. تحاول أختها لفت نظرها إلى أنها ستجفل الرجل القادم إلى عشاء ابيهما بسرد سيرة عقلها ووساوسها وريبتها. تقترب هيدجيرا من الرسام متهمة اياه بخدش شرفها ترسمني على نحو اقرب شبها بك. تحاول أن تحكّم المجتمعين مستصرخة: اهو يرسمني أم يرسم نفسه؟ تظهر إشارات سردية الى أن الرسام هو احد منتظري المخلص، ولأنه فنان، وعلى رغم من شرقيته وتطفله وتجسسه على الآخرين، يظهر أكثر وعياً من أفراد عائلة يالوه لتنبيهه لهيدجيرا يطلب الرسام منها لفافة دخان ليدخنها في المنطقة الحرام.
رينكبي اسم النفق السادس الذي ينتظر فيه، الطويل ذو السترة السميكة المبطنة بريش الإوز الغاضب، يوش بن يالوه، حاملاً عصا الهوكي مع ذئبه، الذي يناجيه محاولا تبرير إقامته في المنفى انه يهجس بمحنة المنفى من دون أن يصرح بها اسماً أحمل على ظهري أبدية مكسورة الظهر من حمل الأمل الثقيل، أمل الإنسان في معجزة لا ضرورة لها.
اشمانو بن يالوه ينتظر المخلص في نفق رودمانشغاتان محاولاً تأويل الرسوم الجدارية و فهم حداثة الغرب. يقوم في الأثناء بوشم القطارات بحروف اسم المخلص المنتظر التسعة قطاراً قطاراً. ثمة شرطيان رجل ضخم وامرأة نحيفة يراقبانه، يفكر في الهرب لكنهما لا يتدخلان إلا عند استخدامه اللون الأبيض وليس لاعتدائه على الحق العام. يقدم لهما اسمه فيشمئزان من رائحة السمك الزنخة في اسمه الشرقي، لا يفهم اشمانو سبب تطيرهما من اللون الأبيض، فيوضح الشرطي له: البياض لذائذ الشك، الديكارتية حق غربي خالص لا يحق للوافدين! لا يدرك اشمانو المتخلف فلسفة اللون الغربية. إنها مشكلة اندماج المهاجرين الصعب في الغرب.
في نفق شارهولمن تجلس ليداليا بنت يالوه، لتدبج رسالة مدججة بالشتائم العنقودية إلى زوجها الذي خانها باتخاذ ابنة خالتها عشيقة، وتقرر الانتقام، بترك قطتيها – أهداهما إليها زوجها الخائن – تحت احد الأدراج محبوستين في قفص، وتقوم بلصق مرايا صغيرة على جدران النفق حتى يرى المدعو الى عشاء الأب نفسه عند وصوله، أو حتى لا ينسى دعوته اذ يصطدم بقرون الحداثة.
في نفق سنترال، ينتظر يالوه المخلص وهو يعزف على الكمان، يظنه العابرون متسولا، يحس باليأس، لكنه لا يزال يأمل في أن يصطاد الزائر بلحنه الرديء بحسب وصف اشمانو له.
الشرق والمغول
في المسرح الثاني للرواية، في الشرق، وفي شكل متواز، مشهدا فمشهدا، يرصد السرد رحلة الأنفار المغوليين الستة المتجهين من إقليمهم كاروكشين حيث يحكم الزعيم الأبدي الطاعن في السن بلا عدد تيغوتكين شاه، إلى جبل كاكونت الواقع وراء جدار زانهينغ، الذي نكتشف في الفصل ما قبل الأخير، أن الحاكم تيغوتكين يشعر بالكمال الناقص لديه كل ما يصلح للقتل واللذة لكن تنقصه الثقافة في المعنى الغربي. وبناء على هذه الوصفة السحرية لعلاج مشكلة الأمة، يحمّل جمال رسله الستة، ذات السنامين، بشذور الذهب واجربة المسك والكافور والعنبر لمقايضتها بعلوم الكمال الأول في دساكر مودابورك، لينقلوا من علومها نسخة كتاب”ثقة الملتبس”وكتاب”التمويه على الأقدار المعلومة”، وتخيّر الشطرنج الأكثر صقالة في خشبه لتدبير نشأة ثانية لابنه، وتأهيله ببعض علوم الكلام و تدريبه على الحروب ولكن على رقاع الشطرنج وليس في ميادين الوغى!
تسقط ورقات عورات شخصيات المكلفين الستة”المهرجين”في مشاهد الرحلة المتتالية وتتقشر عيوبهم: الدليل الأول تاهشين البسيط، الذي يكرم زق حليب الخيل المغيب للعقل بلقب”زق العلوم”، والدليل الثاني تالمجور المخصي والأعرج. وخبير حروب الشطرنج باكلباه المخصي أيضاً وعقيدته المترفة في الشطرنج فهي”الإقامة في المهجور”، والقارئ الأول بالبور، القصير، والذي يشبّه الحروف بالخوف! و عرّاف الرحلة الثاني بيغون الذي يعتبر القراءة خطأ مقصوداً للتستر على خطأ المعنى المقصود! وجانكوه الرسام، محترف تضليل الألوان، وإهدار الأصل!. يجدون أنفسهم على حافة التيه، في سهوب كاروكشين. و كلما توغلت الرحلة في المتاهة ظهرت خشونتهم وبان جهلهم في محاوراتهم، حول الخصى، والسفاد والعطور.
يبلغون النفق الذي يفصل الهمجية والتخلف عن الحضارة، وتبدأ معاناتهم من العطش. يبلغون النفق الصخري المسدود باتجاه دساكر مودا بورك. ثمانية عشر يوماً دار الستة الأنفار بجمالهم على أنفسهم في المضائق الحجرية شرق صحراء لوكهين، بلا أمل. يعثر بيغون في هيكل مدفون في الرمل، على غريب، في الرمق الأخير، في عقده الرابع، يرتدي ثياب أهل البعد الأوسط في الصحراء الحجرية،”أزرق”العينين،”أشقر”الشعر، ببشرة لم تسمر بعد.
يموت الغريب – السائح الأوربي، أو المستشرق الباحث عن روحانيات الشرق – بعد أن يخبرهم انه من منابت البرد. ينبشون متاعه فيعثرون على تصانيف فيها شيء من ثقة الملتبس، وشطرنج، وپ”انتيكات”فيقرر بالبور وباكلباه العودة بهذه الغنيمة الناقصة، فيما يقرر الأربعة الآخرون مقارعة جدار زانهينغ لتنفيذ المهمة المستحيلة كاملة.
لوحتا الختام، شرقاً وغرباً، متوازيتان ومتعادلتان في المصير. لوحة النهاية السويدية عنوانها، اسم المكان، اكس فاكن: حيث دارة يالوه. تقرع الباب سيدة” سويدية”مع كلب مستغربة تغيير قفل بيتها، وتقول بلطافة”غربية”إنها تعتقد انه بيتها، بدليل ألفة الكلب للدار، وبدليل خلو لسانها من شبهات الكلام. تغادر المرأة بلا جدال مع اشمانو الذي يصدها. في الدارة يستمر بارسيس في مزاحه القاتل فيهوي اكيلون بسهم أخيه الذي أصاب منه مقتلاً في رضفة ركبته اليسرى. يسقط مقتولاً على سماط”العشاء الأخير”المضرج بالدم.
أما في لوحة الشرق الختامية فيضل فيها باكلباه وبالبور العائدان إلى إقليم كوكشين، طريق العودة. ويتعرضان لعصابة تسلبهما أسفار العرافة وصندوق الشطرنج. يرجوان زعيم العصابة: أعيدوا إلينا متاعنا أو اقتلونا. يرد الزعيم: لا نقتل من لم يتدبروا لأنفسهم مخلصاً بعد.
يمكن الزعم بأن الرواية – التي يتجرأ فيها بركات على استضافة حروف لاتينية في نصه للمرة الأولى- تتبنى رؤية استشراقية، في المعنى السائد المعروف، حيث الشرق مكان العنف والحريم والطعام والسلطة والتواكلية، بل يمضي الروائي، جالداً الذات، إلى ابعد من مقولة كبلنغ الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا، إلى القول: إن الشرق محكوم بالتخلف واليأس، وان الشرقيين المقيمين يعانون من قدامة متأصلة، وإن المغتربين يعانون من قدامة مهاجرة.
منفيو الشرق، سادرون في ظلام الأنفاق، لا يقيمون وزنا للزمن، محتلون يستولون على دور المضيفين وأوطانهم في الغرب وعلى ثمار ثقافة الآخرين في الشرق كالقبول بالمنتج ورفض النظرية المنتجة. خشونتهم بادية في أماكن ضيافتهم اصطحاب الذئب بدلا من الكلب والانتقام بطريقة تعوزها الرحمة والتكافؤ من حيوانات وديعة، والجلافة حمل الهراوات، والتدخين في الأماكن العامة، وكتابة الشعارات الوطنية والدينية على حيطان الأمم الأخرى.
“السلالم الرملية”رواية هجاء الذات، والغيرة الحضارية والقنوط. كل مشهد من مشاهد الأنفاق المسدودة التي لا يجتازها أحد تنتهي”بفرجة”تضحك منها الأمم. تومئ الرواية في إحدى إيماءاتها الكثيرة إلى أن النهضة مستحيلة بسلالم رملية.
اللوحة للفنان خالد نصّار