عوالم المثقفين: أزمة المفاهيم وطبيعة الدور

349

المنامة – عبدالله زهير

 

عالم المثقفين العرب، اليوم، أكثر تعقيداً مما يمكن أنْ نتصور، أكثر هلاميةً من أي وقتٍ مضى من جانب. ومن جانب آخر، أمراضُه ومكامن الخلل في بُناه وقواعده، في هياكله ومؤسساته، في أفكاره وأدواره وشبكة علاقاته المختلفة، تستوجبُ أنْ نفككَ كثيراً من تابوهاته وقاراتٍ من المسكوت عنه و «اللامفكر فيه، والمستحيل التفكير فيه»1 (انظر: محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ص332) على المستويات جميعها.

وقد كُتبَ الكثيرُ في هذا الشأن، تحليلاً وتفكيكاً ونقداً لما سُمي «بالنُخبة المثقفة»، إذْ يكفي أنْ نستشفَّ من خلال هذه التسمية فقط طابعَ الاصطفاء والترفع والاستعلاء على القطاعات المجتمعية الأخرى ومكانتها، فالمفهومُ يستبطن حالةً طاووسية تُنزل المثقف منزلةً شبيهةً بما تفعله وتمارسه الأطروحات الدينية والإيديولوجية في تصنيفها لفئات المجتمع على أساس رسولي واصطفائي. لكن ثمةَ أسئلةٌ كبيرةٌ وكثيرةٌ يمكنُ أنْ نطرحها في مقام التأمل وإعمال الفكر وإعادة النظر بكل المفهومات والمسلمات وتجديد الرؤى والمبتنيات ومحاولة الكشف والاستكشاف والإضاءة بطبيعة الحال، لا في مقام المساءلة والمحاسبة والانتقام كما تفعل الأجهزة الأمنية العربية في أكثر من قطر عربي.

في هذا الإطار، كيف نفهم طبيعة دور المثقف؟ وبدئياً، من هو المثقف؟ ما هي هويته؟ هل هو الكاتبُ؟ هل هو الشاعر؟ هل كلُّ من يمتلكُ قدراً من المعلومات ينطبقُ عليه هذا المصطلح؟ أساساً، هل من الضروريِّ أنْ نُفصِّلَ آلياتِ مطابقةٍ فيما خصَّ هذا المفهوم؟ بمعنى آخر، هل من صميم دورنا أنْ نصنعَ مسطرة دقيقةً يُقاس من خلالها مدى المطابقة؟ ما علاقة المثقف بقطاعات المجتمع الأخرى؟ هل هو فعلاً أعلى مكانةً وشأناً وسلطةً من غيره؟ ما علاقته بالسلطة، أياً تكن سياسيةً أو دينية أو مجتمعية أو غيرها؟ ما علاقته بالمثقف الآخر ضمن قطاع الثقافة نفسه؟… إلخ

بدايةً، لا يتصورنَّ أحدٌ أنَّ عالمَ الثقافة والمثقفين ذو طابعٍ ملائكيٍّ. فقد يكون مجتمع المثقفين أكثر المجتمعات التي تستشري فيها قيمُ التنابذ والتحاسد والأحقاد والتذابح والتناحر والتخوين والأخذ بالثأر والفساد والاستبداد؛ ناهيك عن أنها تمتلئ بأمراض العصبيات بمختلف ألوانها، الدينية والطائفية والقبلية والعرقية والفئوية والشخصية. تمثيلاً لا حصراً، كم مرةً شاهدنا على الهواء مباشرةً، في القنوات التلفزيونية العربية، عراكاً جرى بالأيدي والأرجل وكل الآلات والأدوات بين من يُنظر إليهم على أنهم «مثقفون» أو «صفوة المجتمع»؟! أينَ هذا المشهدُ من مفهوم الثقافة أصلاً؟! هذا غيضٌ من فيض الطابع الذي اتسمت به شخصية المثقف العربي. هذا ينبئك عن الدرجة التي وصلت إليها الحالة الكارثية المتردية للمثقفين في العالم العربي.

وعلامةُ الاستفهام الكبرى أيضاً: لماذا نفترضُ دائماً أنَّ المثقف أكثرُ تنويراً من سواه؟ لماذا نفترضُ أنه أعمقُ فهماً للأمور ومجرياتها من الإنسان الآخر في هذا القطاع أو ذاك؟ هل من صميم مهنته أن يمارس دورَ التنوير لغيره، وهو مَنْ يحتاجُ أساساً إلى تنويرٍ وفهمٍ كاملين لطبيعة دوره وحدود إمكاناته وعلاقاته مع الآخر، على المستويات المختلفة والمتنوعة؟ (انظر: علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، ص13)

الإشكالية الأساسية هنا هي: كيف يريدُ المثقف أنْ يصلحَ الخارجَ مجتمعاً وسلطةً وغيرهما، وداخله مبتلىً بأزماتٍ لا حصر لها، أي في داخل قطاعه وداخل مهنته؟ يريد أنْ يصلحَ السلطة السياسية أو أنْ يثورَ عليها ويغيِّرَها، وهو يحتاج في البدء لأن يُصلحَ عالمه وذاته، بل هو يعاني من الأزمات نفسها التي تعاني منها تلك السلطة من فساد واستبداد وازدواجية معايير وطبقية وسواها.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4389 – السبت 13 سبتمبر 2014م الموافق 19 ذي القعدة 1435هـ

اللوحة للفنان إسماعيل الشيخلي