تأملاتٌ في كتاب « الانتفاضات العربية » لهاشم صالح

5321098992_ebb9f6e480_b

 

المنامة – عبدالله زهير

 

يسيطرُ على أجواء كتاب هاشم صالح الأخير (الانتفاضات العربية: على ضوء فلسفة التاريخ) هاجسُ التفكيك المعرفي لحالة الانتفاضات العربية، بعدَ أنْ تحولتْ دراماتيكياً وبصورة تفوق السريالية مِنْ مُسمى الربيع العربي الشهير إلى خريفٍ أصوليٍّ دمويٍّ ينذر بطول أمده زمنياً، واتساع التذابح والتناحر والحروب الأهلية على الصعد كافة، جغرافياً، دينياً، اجتماعياً.

محاولة صالح جديرةٌ أنْ تكونَ أولى المحاولات الثقافية الجادة ذات القيمة العالية في فهم هذا الحدث العربي المتصاعد؛ إذْ تنتشر حولنا، على الورق، وفي الفضاء الافتراضي، نصوصٌ هي أقربُ إلى صنف الكتب الصفراء السطحية، وتشبه إلى حد بعيد المؤلفات الفضائحية التي تسعى إلى اختلاق الإثارة واستغلال استشراء المكبوتات، ناهيكَ عن أنها تنحدر عن مستوى الحدث الذي تكتبُ عنه. هي بالأحرى تستثمر الحدثَ، وتتخذ منه وسيلةً لتحصيل الشهرة المزيفة، بدلاً من إنتاج معرفةٍ تفضي إلى فهمٍ أكثر عمقاً للحدث، وخاصةً إذا كان هذا الحدث ذا ثقلٍ على مستوى التاريخ، وذا تأثيرٍ على مستوى السياسة والمجتمع والثقافة.

على العكس من ذلك، يحفرُ مترجمُ كتب أركون عميقاً في عوامل الانسداد التاريخي الداخلي للعالم العربي، وارتباطه بالانسداد التاريخي الخارجي للعالم على وجه العموم. وهذا المصطلح كان عنوان أحد مؤلفاته السابقة «الانسداد التاريخي… لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي».

بعدَ أنْ يحللَ عوامل الانسداد التاريخي المتشابكة كالأصولية الراديكالية والأنظمة البوليسية وسواهما. في هذا البُعد، يقول في الفصل الثالث من كتابه «الانتفاضات العربية» (هكذا نلاحظ أنَّ الانسدادَ التاريخي للوضع العربي ناتج من عدة عوامل لا عامل واحد. إنه معقد ومتفاقم ومحتقن إلى أقصى الحدود بسبب تشابك هذه العوامل المختلفة بالذات. من هنا الطابع الانفجاري للوضع العربي برمّته. فما بعد الانسداد إلا الانفجار)

التساؤلات التي يطرحها الكتابُ، في غالب الظن، تنتهجُ أسلوبيةً نقدية قد تكون مغايرةً لما اعتاد المثقف العربي أن ينتهجها؛ لكن يشوبها في كثير من الأحيان من الداخل حالةً تناقضية تطرحُ المزيد من التساؤلات الأخرى بدورها. في هذا الإطار يستلهمُ الكاتبُ مناهجَ فلسفية غربية الطابع إذا جاز التعبير؛ فمثلاً تحضر منهجية هيغل الدياليكتيكية في فلسفة التاريخ بقوة لتفكيك بنية الصراع المذهبي والديني (اعلموا أنه توجد عقلانية عميقة تحكم العالم وتشكل لحمته الخفية… ولا تخشوا الصراعات الطائفية ولا حتى الحروب الأهلية. فمعارك البشر وتطاحناتهم العنيفة ليست إلا المواد الخام التي يتخدمها العقل لكي يتوصل إلى مبتغاه في نهاية المطاف). ثم يقول (العقل يتوصل إلى مبتغاه عن طريق اللاعقل: أي عن طريق جنون التاريخ. البشر المنخرطون في الصراعات يعتقدون أنهم يتابعون أهدافهم الخاصة إذ ينخرطون في الممارسة السياسية. ولكنهم في الواقع يحققون أهداف العقل على غير وعيٍ منهم. إنهم وقود التاريخ السائر نحو الأمام وتجاوز العقبات بلا أدنى شك).

نلحظ من السطور السابقة نزعة تشي برؤية الأمور من منظور فكرة «الحتمية التاريخية» التي اشتهر بها هيغل، وتبناها اليساريون العرب في العقود الفائتة. صحيحٌ أنَّ هذه الفكرة، من زاوية ما، تريح المثقف نفسياً من إحباطات الواقع وفواجعه. لكن الصحيح أيضاً، من زاوية أخرى، أنّهاَ تنظرُ إلى المأساة البشرية والقتل اليومي والمجاني بعقلانية باردة وحيادية وذرائعية. وتبعاً لذلك، في ضوء هذه الفكرة، هل يمكن أن نفهم أنَّ آلاف وملايين القتلى والجرحى والمهجرين وسواهم في العالم العربي ليسوا إلا قُرباناً تاريخياً (وقود التاريخ) للحصول على نعمةِ التقدم الحضاري، وللدخول إلى عالم الحداثة وما بعد الحداثة؟

لقد أخذتْ رياحُ المخيلة الكاتبَ في رحلة فكريةٍ إلى نقاشٍ حادٍ وطريفٍ مع الفيلسوف الألماني نيتشه بشأن إشكالات ما يسمى بالربيع العربي، إذْ يُستخلص من خلاله ضرورة استهضام القطيعة الإبيستمولوجية مع الذات التراثية قبل الحديث عن أيٍّ من مسائل كالعلمانية والحداثة، وهذا محورٌ مهمٌ يحتاجُ إلى بحثٍ آخرَ أيضاً.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4529 – السبت 31 يناير 2015م الموافق 10 ربيع الثاني 1436هـ

اللوحة (بدايـة زائفـة)
للفنان الأمريكي جاسبـر جونـز، 1959