« الحنين العاري » لدى عبد المنعم رمضان

download (2)

نُشرت هذه المقالة في مجلة نزوى، 13يوليو 2015م

يعد الشاعر المصري «عبدالمنعم رمضان» المنتمي لجيل السبعينيات شاعرًا إشكاليًّا، تشكل قصائده حالة من الحجاج المائج بالجدل والتفلسف المتكىء على وسائل جمالية. يقدم أحدث دواوينه «الحنين العاري» الذي يجيء ليسجل حالة من التنقيب الجمالي في الوجود والمسائل حول معطيات الكون والمنقب في الذات والمفتش عن أسرار العالمين الخارجي والداخلي معًا، فالذات تعاين حالة وسطى بين الكسب والفقد، والشعور بالفقد يتجلى في الشعور بعدم الامتلاء الذي يدفع الذات لمحاولة استفياء نقائصها وسداد حوائجها ودفع عوزها:
لماذا أتخيل أنني أرى شفتي يابسةً
وجفوني سوداءَ
وأظافري مثل أفكاري العذبةِ
تطول ثم تتقصف
ولا أكاد أفقدها
يبدو الوعي المسائل المتلفح بالدهشة في حال تخيلي مفارق للوعي في حالته الأولية ومستواه الحسي الإدراكي، لينتقل إلى مستوى التخييل الذي يمثل ظهير الإدراك وظله المنبعث من باطنه الذي يصدر الشعور يالتيبس الكاشف عن حالة من التأرجح في مسعى الذات اللاهث في توليد أفكارها بين النمو والابتسار، فالذات القلقة تمور بتمثلات شعورية مائجة تجدد حركتها وتدوِّر إيقاعها وتبقيها في حالة علوق بيني وتردد دائر، والمائز في الصورة السابقة التجريد في تشبيه الأظافر بالأفكار، في اتجاه مباين لنزوع الصناعة التصويرية إلى تشبيه المجرد بالمحسوس، فالرؤية التصويرية تجعل الفكر والمجردات مركزًا لقياس موضوعات العالم المادية، فتنطوي على رؤية الداخل مرآة لبلورة الخارج. فيبدو أن هناك حالة من البحث وطريقًا تشقه الذات في رحلتها الوجودية، أحيانًا ما تصطدم بحوائل مانعة وتمر بحواجز فاصلة في سبيل بلوغ هدفها:
لقد تزاحمت الأقمار
في طريقي إلى العطرِ
لقد تزاحمت أشجار النهارِ
وأشجار الليلِ
ولكني أتعثر في نفسي
لماذا لا يزال السر طويلًا
قدماي تدوسان على شيءٍ كالريحِ
فأفكر كيف أمزج النور بالنورِ
لم تزل الذات الشاعرة تواصل مسعاها إلى بلوغ العطر الذي يمثل معطى فزيقي يجمع بين التحدد في الإحساس به واللاتحدد – في آنٍ – في انسلاخه من التحديد الدقيق في قياس مدى انتشاره المكاني والزمني، فالذات تسعى في مناطق ما بينية ومفارق برزخية حتى تتزاحم في طريقها الأقمار التي تمثل كتلًا منيرة رغم سلبيتها في كون فاعليتها النورانية مستمدة من انعكاس ضوئي على سطوحها، فالذات ما تلبث أن تسعى لهدف مقصود وغاية منشودة حتى تتعطل في مسلكها ببروز طوارىء تصرفها– ولو لبعض الوقت- عن إدراك مقاصدها المتوخاة. كذلك تتزاحم في طريق الذات الأشجار التي تعد علامة كونية رابطة الباطن الجذري العميق بالسطح كما تمتد لتعاين السماء، وإزاء هذه الشواغل الخارجية تتعثر الذات في داخلها مما يطلق أشعة التساؤل في فضاءات الوعي: لماذا يظل السر طويلًا؟، فهناك مسعى لفك مغالق السر الذي هو مرمى لتطلع صوفي يبتغي فك شفرات الوجود، لكن السر يطول في مداه، وتقف الذات على شيء لا تدرك تمامًا كنهه فهو كالريح، وتبدو الذات عالقة ولا تسعفها معطياتها اللغوية، فكلما اتسعت الرؤية وتطاول السر ضاقت العبارة وأفلت الإحساس من قبضة الوصف، مما يحرض على إعادة تشكيل الوجود وإعادة تركيبه (أمزج النور بالنور).
فثمة سعي دائم لبلوغ هدف يبدو مرواغًا، فما تلبث الذات أن تدركه حتى يفلت منها:
ماذا تفعل إذا ارتقيتَ الجبل ذات مساءٍ
ولما تجد فوقه سماءً
لم تجد فوقه سوى نجمتين تهربانِ
وثالثة تراقبهما
أنصت إلى صوت الهروبِ
لعلك تفطن إلى صوتِك
إن الموقف الوجودي المخاتل يحرك الشعر، والشعر يحرك التساؤل، والتساؤل يبحث عن فرضيات، والفرضيات تتكاثر وترفض التحدد، فيبدو أن الذات تلاحق غاية ما تلبث أن تتشكل حتى تتبخر، فالذات تعشق الصعود نحو مقاصدها، غير أن صعودها محفوفٌ بالمشقة وارتقاء الجبل، فلا تجد سماءً، فلا سماء لمنشوداتها ولا سقف لأهدافها، وما تجده من نجمتين تفران، غير أن فرار الهدف وتحوره إنما هو ترديد لصوت الذات غير القانعة بما تناله من غايات. ورغم إفلات الغايات وإرجاء الحلم، فهناك تمسك به وإصرار عليه وصبر على نيله:
مازلتُ أحلمُ
أن يكون دمي نظيفًا
أن تكون أصابعي بيضاء
أعماقي مقرًا للهواء البكر
جسمي طائرًا يقظًا كثيرًا
أو كأن الريحَ تسكنُه
وتجري فيه
إن استمساك الذات بأهداب الحلم يتعلق برغبتها في النقاء، وحلمها بأن تكون طيرًا، فالطير تمثيل للروح الهائم، ورمز للفكر المنطلق والوعي المحلق، غير أن تحليق الذات مرتبط بسكنى الريح فيها، والريح تمثيل للثورة والتجدد القائم على خلخلة المستقرات والعصف بالثوابت، فالحلم قرين الثورة، والذات تشتبك في تشكلها بعناصر الطبيعة كالريح وأيضًا الشمس:
تلك الشمسُ
مازالتْ إذا قمنا تقومْ
مازلتُ أوثر أن أرى ظلي
الذي جاءت به خلفي
يسابق خطوتي
إن الشمس هي كتلة النور والنور وهي مجلى للتجدد الكوني، فتبدو تلك الشمس مرتبطة بحركة الذات، مما يمنحها تجددًا مستدامًا، ويتساوق مع الشمس حضور الظل الذي يمثل القرين الباطني للشخصية وهو الجزء الإبداعي النامي والساعي للكمال وفق ما دفع يونج، فالذات تريد لقرينها الشخصي أن يسبقها ويتقدم عليها، والظل إيجابي في كونه أنموذجًا للشخصية المثالية التي تمثل أفق حلم الذات وهو سلبي أيضًا في كونه مستودعًا لمخاوف الشخصية ومخزنًا لهواجسها لاسيما مهابة الموت، لذا فالشخصية تريد أن تسيطر على ظلها بان تضعه أمامها. وإزاء هذا الظل الملاحق للشخصية فإنها تشعر بانشطارها:
أذكر أسماء كل اللوتي عَرَفتُ
أنا الآن حقلٌ كبيرٌ
وقلبي هو البرتقالةُ
أمنحها/ آخرَ الليلِ
واحدة من أولئكَ
كنت أقسم جسمي جسومًا
تكاد تعادل أسماءهنّ
إن الصياغة السريالية المنبثقة عن رؤية رومانسية تتماهى عبرها الشخصية مع عالمها الطبيعي وتتلبس موجوداته أقنعة لها، تؤكد على انشطار الذات وانقسامها بما يكافىء من عرفتهن، والذات تجمع بين الانشطار بتوزعها على من تعرفهن وتشكلها جسومًا معادلة لوجودهن، وبين التمدد والرحابة فهي كالحديقة في استعيابها لأنماط متفاوتة لمن علقت بهن، غير أن هذا الحضور المنشطر للذات يُشعرها بالاغتراب مهما حاولت الرجوع لحالتها الأولى وطبيعتها الأصلية وهيكلها الفردي المتماسك:
عزفت نشيد رجوعي من منفايَ إلى منفايَ
عزفت النوم على الأرصفةِ
النوم على جنبيَّ
النوم كأنيّ إخدود
وسقوط الليل على الأشجار
الوقت الضائعَ، والوقت المتروك على الجدارانِ.
إن الشعور بالاغتراب الذاتي للشخصية يحيل عالمها إلى منفى، فالشعور بالنفي يحاصر الشخصية ويطوقها، مما يلقيها مشتتة، نومًا على الأرصفة، فيخيم الليل بما يلازمه من عتمة مشحونة بالخوف على الأشجار التي ترمز إلى الحياة المتجددة والوصل الكوني بين باطن العالم وسمائه، مما يبدد الوقت ويجعله معطى مهملًا ومتروكًا على الجدران، واللافت عبر هذا الديوان هو طغيان ضمير المتكلم الفردي الذي يعكس شعورين متواشجين بين إحساس الشخصية بوحدتها وعزلتها الوجودية وكذلك ثقتها في الذات الخاصة الذي يعكس انعدام ثقتها في العالم الموضوعي، فالذات هي مصدر المعرفة والأنا هي مرجع اليقين الوجودي، فقد أمسى العالم بلا ثوابت تكون مرتكزات له وبلا غطاء:
سقـف بلا سـيـقانْ     أرض بغير غطاءْ
شمس بلا أغصانْ      قمـر بغير سـماءْ
لـيلٌ هـو السـجانْ      روحٌ هي الإسراء
يـا سـيـد الأكـوان       ما شـئته سأشـاء
إن خلاصة رحلة البحث الدؤوب التي تخوضها الذات تفضي إلى انحلال الموجودات من ركائزها وعريها من أغطيتها في تمظهر سريالي للوجود، والبارز في ديوان «عبد المنعم رمضان» هو تنويعه التجريبي في بنى القصائد العروضية التي تتراوح بين التفعيلة والعمودي المشطور كالنموذج الماثل فيما يشبه قالب شعر الموشحات والتروبادور، كما تمتاز البنية بتماثل بنيوي في هيكلها الصرفي يُحدث سميترية إيقاعية منضبطة تبدو كأنها ظل لسيمترية الوجود القائمة على الانسلاخ من النظام القائم على مرتكزات والتخلص من الأسس والتحرر من الثوابت، فيتأسس الوجود على اللاقيد كما تقدم الصياغة في شطري البيت الثالث المسند (ليل/ روح) على المسند إليه (السجان/ الإسراء) للتركيز على حالة الليل المسيطر على الروح مما يحملها في إسرائها إلى الله للتسليم بمشيئته.