قناع المتنبِّي في كتاب الكتاب لـ أدونيس

15787477

في أطروحة ماجستير لـ (قصي عطية) نُوقشت في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة تشرين في اللاذقية/ سوريا بتاريخ 3/ 7/2011 أطروحة لنيل درجة الماجستير، بعنوان: (قناع المتنبِّي في كتاب “الكتاب، أمس المكان الآن” لـ«أدونيس»)، والأطروحة مقدّمة من طالب الدراسات العليا: (قصي محمّد عطية)، وفي نهاية المناقشة نال الطالب درجة الماجستير في الأدب العربيّ، بتقدير (امتياز) ودرجة قدرها (89)، أمام لجنة الحكم المؤلَّفة من السَّادة:

الأستاذة الدكتورة: لطفية بَرهم / أستاذة النقد العربيّ الحديث في جامعة تشرين ـ عضواً ومشرفاً

الأستاذ الدكتور: وفيق سليطين/ أستاذ الأدب المملوكيّ والعثمانيّ في جامعة تشرين ـ عضواً

الأستاذ الدكتور: خالد يسير / أستاذ النقد العربيّ الحديث في جامعة تشرين ـ عضواً

وفيما يلي ألقي الضوء على أهمّ ما جاء في الأطروحة:

تعدّدتْ أشكالُ استحضار التراث في الشّعر العربيّ المعاصر عبرَ تقنياتٍ بنائيّةٍ، مثل: (الاستدعاء، والتناصّ، والمرايا، والقناع، … الخ) تعدّداً جعل حضور التّراث سمةً فنيّةً من سمات هذا الشّعر، وهي تقنياتٌ يعنينا منها (القناع)، بوصفه عنوان البحثِ؛ إذ استخدم روّاد الشّعر العربيّ المعاصر مجموعةً من الأقنعة في شعرهم؛ لأسبابٍ قد تكون سياسيّةً، أو اجتماعيّةً، أو فنيّة.

ويُعدُّ (أدونيس) من أوائل الشّعراء الذين استخدموا تقنية القناع في شعرهم، منذ ديوانه (أغاني مهيار الدمشقيّ) الصَّادر عام 1961 م، متّخِذاً من شخصيّة (مهيار الدمشقيّ) قناعاً يعبّر من خلاله عن بعض ما كان يشغله من قضايا فكرية، وفي (الكتاب، أمس المكان الآن) يتّخذ من شخصيّة الشاعر العبّاسيّ (أبي الطيّب المتنبِّي) قناعاً له، يضفي عليه أبعاداً معاصرة؛ لذا بدت شخصيّة (المتنبِّي) في (الكتاب) شخصيّةً يمتزج فيها التاريخيّ بالفنّيّ.

تعود أسباب اختيار (الكتاب، أمس المكان الآن) بأجزائه الثلاثة لـ (أدونيس) مجالاً للبحث إلى اهتمامي بالشّعر الحديث عامّةً، وشعر (أدونيس) خاصّةً؛ إذ وجدت في شعره ما يلبّي رغبتي في البحث، بما يستدعيه من تأمُّل، واستقصاء، وتأويل، وفي (الكتاب) يقدّم (أدونيس) ذروة إبداعه الشّعريّ، فهو أوّل عمل شعريّ يخترق الشّاعر ـ من خلاله ـ التراثَ العربيّ القديم؛ ليقيم معه حواراً شاملاً: يسائل المقدَّسَ، ويكشف المحظورَ، والمسكوت عنه في التاريخ العربيّ، ويبدي موقفاً نقديّاً تأويليّاً، يعلن عن دور الشّعر في إعادة صياغة الوجود، كما كان لتقنُّع (أدونيس) بشخصيّة الشّاعر العبّاسيّ (المتنبّي) سببٌ قويّ في اختيار عنوان البحث؛ إذ نسب (أدونيس) كتابه إلى (المتنبّي) حين استهلَّ أجزاءَه الثلاثة بعبارة: (مخطوطة تُنسَب إلى المتنبّي يحقّقها وينشرها أدونيس).

وقد كانت الأسئلة التي أثارت فضولي العلميّ قبل إنجاز هذا البحث هي:

لمَ اختار (أدونيس) شخصيّة (المتنبِّي)؛ لينسب إليها كتابَه، ولم يختر شخصيّة شعريّة أو تاريخيّة أخرى؟ وما هدفُه من ذلك؟ وهل وجد في (المتنبِّي)، وسِيرتَيْه التاريخيّة والشعريّة، ما يلبّي غاياتِه من وراء ذلك التقنُّع؟

هل أراد (أدونيس)، من إعادة قراءة التاريخ العربيّ، أن يضفي على تلك القراءة نبرةً موضوعيّةً، لا تتحقّق من دون تقنية القناع؟ وهل كان يدرك أنّ قراءة التاريخ مسألة حسّاسة، ولاسيَّما أنّه لم يأبه بوقائع التاريخ، التي دوّنتها عقليّة اليقين ـ السّلطة، بل أخذ يبحث في بنية ما هو ضائعٌ على هامش التاريخ، والتدوين؟

ثمّ هل كان تقنّعه وسيلة للهرب من النّقد، الذي يمكن أن يتعرّض له بعد أن اقترب من المحظور، والمقدَّس؟

وفي النهاية، هل نجح (أدونيس) في توظيف قناع المتنبّي في نصّه الشّعريّ؟

لقد حاولت، في هذا البحث، أن أجيب عن بعض هذه الأسئلة، ووفق هذا التصوُّر أخذ بحث: (قناع المتنبِّي في كتاب “الكتاب، أمس المكان الآن” لـ «أدونيس») صيغته النهائية، من دون أن أدّعي تحقيق الشموليّة في تناول هذا الموضوع؛ ذلك أنّ تجربة البحث في هذا الموضوع لم تكن مبتغًى هيّناً؛ لعدم وجود عدد وافر من الدراسات النقديّة، التي تطرقت إليه بصورة مباشرة، وأخصُّ بالذكر الجزأين الثاني والثالث؛ إذ لم أعثر على أيّة دراسة تناولتهما.

ويبدو من العنوان أنّ البحث حدّد مجاله في كتاب (الكتاب، أمس المكان الآن) بأجزائه الثلاثة، للشّاعر السّوريّ (أدونيس)، الذي كان مُنشغِلاً، منذ بداياته، بقراءة التراث العربيّ، بدءاً بـ (مقدّمة للشّعر العربيّ)، و(ديوان الشّعر العربيّ)، مروراً بـ (الثابت والمتحوِّل) بأجزائه الثلاثة، وصولاً إلى (الكتاب، أمس المكان الآن)، الصّادر بين عامي 1995- 2002 م.

أمّا الدراسات السّابقة، التي اشتغلت على شعر (أدونيس)، فيمكننا أن نصنّفها في قسمين:

1-  دراسات عامّة، تناولت اللغة، والخطاب الصوفيّ، والأسطورة، وغيرها من القضايا،  ومن هذه الدراسات: كتاب (في الشعريّة) عام 1987 م لـ (كمال أبو ديب)، وكتاب (مسار التحوّلات، قراءة في شعر أدونيس) عام 1992 م لـ (أسيمة درويش)، وكتاب (لغة الشّعر في «زهرة الكيمياء» بين تحوّلات المعنى ومعنى التحوُّلات) عام 1992 م لـ عبد الكريم حسن، وكتاب (أدونيس والخطاب الصّوفيّ) عام 2000 م لـ (خالد بلقاسم)، وكتاب (الحقيقة والسراب، قراءة في البعد الصّوفيّ عند أدونيس مرجعاً وممارسة) عام 2008 م لـ (سفيان زدادقة)، وكتاب (الأسطورة في شعر أدونيس) عام 2009 م لـ (رجاء أبو عليّ).

2-  دراسات خاصّة بكتاب (الكتاب، أمس المكان الآن І)، ومنها: كتاب (تحريرالمعنى، دراسة نقديّة في ديوان أدونيس “الكتاب I”) عام 1997 م لـ (أسيمة درويش)، وكتاب (الشّعر والتأويل) عام 1998 م لـ (عبد العزيز بومسهوليّ)، وكتاب (الشعر والوجود، قراءة فلسفيّة في شعر أدونيس) عام 1998 م لـ (عادل ضاهر)، وكتاب (التاريخ والتجربة في “الكتاب I” لأدونيس) عام 2001 م لـ (زهيدة جبّور)، وهي دراساتٌ غابت دراسة القناع عنها جميعاً؛ إذ إنّها اهتمّت بالمعنى، والتاريخ، والفلسفة، والتأويل.

وقد أشار (عبد الله أبو هيف) إلى ظاهرة قناع المتنبّي في كتابه الموسوم بـ (قناع المتنبّي في الشّعر العربيّ الحديث) عام 2004 م؛ إذ خصّص فصلاً، من هذه الدراسة، للوقوف عند قناع المتنبّي في (الكتاب) لـ (أدونيس)، وجاءت دراسته توصيفيّة للأجزاء الثلاثة، بدءاً بالعنوان، إلى العناوين الفرعيّة، والتصديرات، والهوامش، وأرقام الصفحات، من هنا تأتي أهميّة هذه الدراسة في تجاوز الدّراسات السّابقة، والوصول إلى نتائجَ جديدةٍ، تتكامل مع غيرها؛ لتقديم رؤيةٍ نقديّةٍ لهذا الكتاب المهمّ.

جاء البحث في (190) صفحة، وهو يقوم بدراسة (قناع المتنبّي في كتاب “الكتاب، أمس المكان الآن”) عبر مقدّمة، ومدخل، وثلاثة فصول، وخاتمة.

حدّدتُ في المدخل بعض المفاهيم النظريّة المتعلّقة بتقنية القناع، وكتاب (الكتاب، أمس المكان الآن)، هي: مفهوم (القناع Mask) في النقد العربيّ، الذي يقوم على فكرة استدعاء شخصيّة تاريخيّة أو معاصرة؛ للتعبير عن موقف يريده الشاعر، أو ليحاكم نقائص العصر من خلال هذا الشخصيّة، متحدّثاً بلسانها؛ ليضفي على صوته نبرة موضوعيّة شبهَ محايدة، ثمّ تحدّثتُ عن مفهوم (تداخل الأجناس الأدبيّة)؛ ذلك لأنّ (الكتاب) عملٌ تتنوَّع فيه الأجناسُ الأدبيّة، فيتناوب فيه الشّعر والنثر والسّرد والتأريخ وأدب السّيرة. كما حدّدت مفهومات (النصّ)، و(النصّ المفتوح)، و(النصّ المترابط)؛ لأنّ (الكتاب) تتعدّد فيه النّصوص، وتقترب في فضائها التشكيليّ من الفضاء الشبكيّ، الذي نجده على شبكة الإنترنت، وتوصلتُ إلى أنّ مفهوم (النصّ) في النقد الأدبيّ العربيّ قد تغيّر تحت تأثير الاستفادة من النظريات الغربيّة، المتّصلة بتاريخ الأدب، وتحليل النصوص الأدبيّة، فظهر مفهوم (النصّ المفتوح) الذي سدَّ فراغاً كبيراً كانت تعاني منه الدراسات النقديَّة، وهو مفهوم يحيل على القارئ المؤوِّل، ويؤدّي إلى سمة مهمّة في النصّ الأدبيّ، هي: (التفاعل النصّيّ)، الذي أكّدته التكنولوجيا الحديثة، فاتحةً السياق على قضايا التفاعل الثقافيّ، التي أفضت إلى ظهور عدّة مفاهيمَ جديدةٍ لـ (النصّ)، هي: (النصّ الإلكتروني)، و(النصّ الرقميّ)، و(النصّ المترابط)، و(السّيبَر نصّ).

وتوقّفتُ في الفصل الأوّل عند (تجلّيّات القناع في «الكتاب، أمس المكان الآن»)، وقد أجملتُ هذه التجلّيات في: (السّرد، والوصف، والدراما، وتعدّد الأصوات، والتّناصّ، والسّيريّة)، ووجدت ما يأتي:

1-   جاء السّرد في كتاب (الكتاب، أمس المكان الآن) على شكلين، هما: السّرد بضمير الغائب (هو)، الذي قامت به شخصيَّة (الراوي)، والسّرد بضمير المتكلّم (أنا)، الذي قام به صوت ذو طبيعة ثنائيّة، هو صوت القناع، بوصفه حصيلة صوتَي (أدونيس) و(المتنبِّي)، أو صوتٌ ذو طبيعة ثلاثيّة، مركّبة من أصوات كلّ من: (أدونيس، والمتنبّي، والراوي).

2-   اتَّخذ (أدونيس) من شخصيّة (الراوي) في الجزء الأوّل من (الكتاب) قناعاً مُشارِكاً في سرد الأحداث، نطق بلسان (المتنبّي) تارةً، وبلسان (أدونيس) تارة أخرى، أمّا في الجزء الثاني فقد اتّخذ من شخصية (أبجد) المتخيَّلة دليلاً للسّفر في مدن عربيّة رمزيّة، واستعان بشخصيتَي: (سيف الدولة الحمْدانيّ)، و(خولة شقيقة سيف الدولة)، وفي الجزء الثالث استعان بشخصيّة (كافور الإخشيديّ).

3-   نشأت حالة من التوتّر الدراميّ بين الصوتَين اللذَين يتشكّل القناع من تفاعلهما؛ أي صوت (المتنبِّي) وصوت (أدونيس)، بحكم أنّ الصوت الأوّل يحيل على الماضي، والصوت الثاني يحيل على الحاضر، وهذا التوتر أسهم في نجاح تقنيّة القناع القائمة، أساساً، على الصراع الدراميّ.

وتناولتُ في الفصل الثاني (وظائف القناع في «الكتاب، أمس المكان الآن»)، وقد أجملتها في: التجدّد والانبعاث، والاستكشاف والاستشراف، وإثراء اللغة، وبين أرخنة الوقائع وشعرنة التاريخ، ورؤية العالم، والبؤر الدلاليَّة التي شكّل بعضها مركز إشعاع في (الكتاب)، مثل: (الفجيعة والمأساة، والغربة والنفي، والصُّوفيّة).

وتوصّلتُ في هذا الفصل إلى أن قناع (المتنبِّي) في كتاب (الكتاب، أمس المكان الآن) لم يكن بوقاً لإيصال أفكار (أدونيس)، أو مجرّد وسيلة؛ لإدانة قوى الظلم والطغيان في التاريخ العربيّ، بل قام بمجموعة من الوظائف، منها:

·        تصحيح تهمة التصقت بـ (المتنبّي) تاريخياً، هي: (ادّعاء النبوءة).

·        استشراف المستقبل في ضوء فهم الماضي والحاضر.

·        إثراء اللغة عبر تحرير الحياة جمالياً، وتحرير الإنسان شعريّاً.

·        إعادة قراءة التراث العربيّ، والتركيز على الأحداث المغيَّبة عبر تأريخ الوقائع، وشعرنة التاريخ، والحفر في بنية ما هو ضائع على هامش التدوين، والكشف عن الصّراع الذي اتّسم به التاريخ العربيّ.

·        البحث في عمق الذات الإنسانية، والكشف عن حالة الفجيعة التي يعيشها الإنسان العربي، عبر ذاكرة مُثقلَة بهموم الذاكرة الجمعية، المتقرّحة بعذابات الإنسان، ماضياً وحاضراً، فيبدو (الكتاب، أمس المكان الآن) أشبه بـ (الكوميديا الأرضية).

·        شكّلت الصُّوفيّة بؤرة عميقة، ورافداً بارزاً من روافد الإبداع في (الكتاب)، وقد استفاد (أدونيس) في نصوصه من لغة التصوُّف، ورمزيته، وغموضه، فجاءت هذه النّصوص على شاكلة النصّ الصّوفيّ متجلّيةً ومتخفيةً في الآن نفسه، وقد ركّز على (الحدْس)، بوصفه دليلَ الصوفيّ إلى المعرفة اليقينية، ومعياراً لصحّتها.

أمّا الفصل الثالث فخُصّصَ لـ: (سمات القناع في «الكتاب أمس المكان الآن»)، وهي: (التأويل، والهدم والبناء، والتجاوز والتخطّي، و«الكتاب أمس المكان الآن» مشروع مفتوح)، ووجدت أنّ:

·        تعدُّد التأويلات ظاهرة محوريَّة في النصّ الأدونيسيّ، ذي الطابع الدلاليّ المركَّب، وقد ارتبط التأويل عند (أدونيس) بالباطنيَّة، التي تقوم على تجاوز التاريخ المكتوب؛ لأنّها تتجه نحو المستقبَل وتنتظر المجيء، وهي مُفرَّغة من محتواها الأيديولوجيّ الدينيّ، ووثيقة الصّلة بالصّوفيَّة والسّورياليَّة، وعبر هذا الفهم الخاصّ انطلق (أدونيس) إلى تأويل التاريخ العربي بوساطة قناع المتنبِّي.

·        انطوت قراءة (أدونيس) للتاريخ على عدَّة إشكاليَّات: منها ما هو متعلِّق بـ (أدونيس) شخصيَّاً، ومنها ما هو متعلِّق بالقناع الذي اختاره؛ ليتحدَّث من ورائه، وأوّل هذه الإشكاليّات أنَّ هذه القراءة هي قراءة شاعر، لا قراءة باحثٍ متخصِّص في علم التاريخ، أمّا الإشكاليَّة الثانية فتظهر في اتّخاذ (أدونيس) (المتنبِّي)، وهو شاعر أيضاً، قناعاً له، ودليلاً في رحلته الاستكشافيَّة للتاريخ، وقراءة الأحداث والوقائع التاريخيَّة الإسلاميَّة على لسانه، وهو الشاعر المعروف بثورته، ورفضه، وتمرُّده، والإشكاليَّة الثالثة هي أنَّ (أدونيس) لا يقوم بإعادة قراءة التاريخ فقط، وإنّما يقوم بملء ثغرات هذا التاريخ أيضاً.

·        نظر (أدونيس) إلى التاريخ العربيّ من جانبين، فهو، من الجانب الأوَّل، قلب المعادلة القديمة، وجعل المهمَّش والضائع خارج نطاق التوثيق متناً، ومن الجانب الثاني كشف الوجه المُظلِم في التاريخ، المتمثّل بالسّلطة الحاكمة؛ للخروج من ثقله، وعبئه الذي صار خرافة في العظمة.

واختتمتُ البحثَ بمجموعة من النتائج المتعلِّقة بتحديد قناع المتنبِّي في كتاب (الكتاب، أمس المكان الآن) لـ (أدونيس)، ومنها، على سبيل الذكر لا الحصر:

1-  شكّلت العتبات النصيّة مدخلاً مهمّاً لقراءة القناع، بدءاً بالعنوان: (الكتاب، أمس المكان الآن)، مروراً بالعنوان الداخليّ (مخطوطة تُنسَب إلى المتنبِّي يحققها وينشرها أدونيس)، وصولاً إلى التّصديرات التي اختارها (أدونيس) التي كانت بمنزلة عتباتٍ للدخول إلى متن النصّ الشّعريّ، وتتّسم هذه التّصديرات بأنّها جميعها لـ (المتنبّي)، وتلخّصت في الجزء الأوّل بموضوع الغربة، سواء أكانت مكانيّة أم زمانيّة، وهي غربة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالعنوان: (أمس المكان الآن).

2-  يتميّز صوت القناع بأنّه ذو طبيعة زئبقيّة، لايحيل على المتن العلويّ من فضاء الصفحة فحسب، وإنّما يتنقّل بين الفضاءات والحيزات، وكان صوت القناع، أحياناً، حاصل تداخل الأصوات مجتمعةً داخل الفضاء التشكيليّ للصفحة.

3-  جاء صوتُ القناع معبِّراً عن حال (أدونيس)، غير أنّ الصّوت الناطق ليس صوته، فصوت (أدونيس) الشخصيّ، على عكس ما هو عليه في نصوص غنائيّة سابقة له، هو أشدّ الأصوات خفاءً في (الكتاب، أمس المكان الآن)، وهو الحصيلة الكليَّة لمجموع العلاقات، والتفاعلات بين عدد كبير من الأصوات، والمكوِّنات، والاقتباسات، والصور التي تدخل في تشكيل النصّ؛ أي إنّه التمثيل النهائيّ للبنية المعرفيّة، التي تختفي وراء تشكيل النصّ.

4-  ابتعد (أدونيس) بقناعه عن المباشرة، والإسراف في الذاتيَّة، وخاصّة في الجزأين: الأوّل والثاني، في حين اقترب في الجزء الثالث من الغنائيَّة، باستغنائه عن شخصيتَي: (الراوي) في الجزء الأوَّل، و(أبجد) في الجزء الثاني، وطغى صوت القناع، الذي يسرد رحلته إلى مصر، بعد تركه بلاطَ (سيف الدّولة)، ثمّ تركه ديارَ (كافور)، ورحلته إلى العراق، واتّسم صوت القناع في الجزء الثالث بنبرةٍ حزينة، وتأمُّلاتٍ فلسفيّة.

5-  لم يقصد (أدونيس) في بحثه في التاريخ مجرّد معرفته، بل وضع هذه المعرفة في خدمة الحاضر، وفي التأسيس لواقع جديد، ومختلِف، والتأسيس لا يكون إلاّ بنقد الموروث نقداً جذريَّاً، وشاملاً.

6-  ظلَّ صوت القناع متواشجاً مع صوت الشاعر (أدونيس)، يمتح من فكره، ويقول ذات الشاعر، وذات (المتنبّي) التاريخيَّة، عبر سردٍ ثنائيّ النبرة، يعبِّر من خلالها عن اتصاله بكلّ من قطبَيه، دراميّ النزعة، فما يقضُّ مضجع (أدونيس) يتوافق مع ما كان يشغل (المتنبِّي)، الأمر الذي ساعد في عمليَّة الإقناع التي نجح القناع في  تحقيقها.

أمّا المنهجُ الذي اعتمد عليه البحثُ فهو المنهج البنيويّ التكوينيّ، الذي يتعامل مع النصّ الأدبيّ، بوصفه بنية لغويّة تحيل على السياقَين: التاريخيّ والاجتماعيّ، وهذا يعني أنّ دراسة النصّ، في علاقاته الداخليّة لا تنفي أهمية دراسته في علاقاته الخارجيّة.

– See more at: http://www.alnoor.se/article.asp?id=130947#sthash.dmvOZ5IN.dpuf