القصة القصيرة جدًا: التكثيف والادهاش

القصة القصيرة جدًا: التكثيف والادهاش

 
العدد 9876 السبت 23 ابريل 2016 الموافق 16 رجب 1437
جريدة الأيام البحرينية
رابط مختصر
 
 

أراد الروائي المعروف أرنست هيمنغواي كتابة أقصر قصة مكونة من ست كلمات، فكتب قصة تقول: (للبيع، حذاء طفل، لم يلبس قط) «For sale: baby shoes، never worn» فاتحا بذلك الباب أمام لون جديد من ألوان الكتابة الإبداعية أطلق عليه اسم (القصة الومضة) أو (القصة القصيرة جدًا).
وجاء صدور كتاب (انفعالات) للروائية والكاتبة المسرحية الفرنسية ناتالي ساروت عام 1932 كأول عمل أدبي متكامل، يبشر بولادة القصة القصيرة جدًا، معتمدة في ذلك تقنية الإيجاز والتكثيف، وكان تأثير كتاب (انفعالات) كبيرًا فرنسيًا وعالميًا، إذ تتالت الكتابات الجادة التي احتفت بالقصة القصيرة جدًا، كفنٍ سرديٍ جديد يضاف إلى الفنون السردية المعروفة الأخرى. وترجم الكاتب والناقد المصري فتحي العشري رواية (انفعالات) إلى العربية في عام 1971 فكانت فاتحة لانتقال هذا الفن السردي الجديد آنذاك إلى الأدب العربي.
في تلك الفترة شاع مصطلح (القصة القصيرة جدًا) أو (القصة الومضة) في الصحف والمجلات الأدبية العربية، مع وجود تجارب أدبية لأسماء مهمة مثل: وليد أخلاصي في مجموعته (الدهشة في العيون)، وزكريا تامر، وحسين المناصرة، ومحمود شقير الذي كتب في عام 1986 مجموعة (طقوس للمرأة الشقية) احتوت على أربع وثمانين قصة قصيرة جدًا. إذا، نحن أمام فن سردي يمتد تأسيسه عربيًا إلى أزيد من أربعة عقود، وقد اختلفت فيه الآراء النقدية بين مؤيد ومعارض، بين متشكك في جدواه، وبين من يراه مستقبل القصة القصيرة. لكن من المؤكد أن هذا الفن صعب جدًا، ويرى الناقد توماس بيرنز سبب هذه الصعوبة في (أن الأقصوصة يترتب على إيجازها أن تكون العقدة يسيرة مباشرة، ورسم الشخصيات موجزًا، محكمًا، مقيدًا بفحوى، والعرض بليغًا). في حين يرى الناقد الدكتور جابر عصفور القصة القصيرة: (كفنٍ صعبٍ لا يبرع فيه سوى الأكفاء من الكتاب القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على أسطح الذاكرة، وتثبيتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الشاعرية بقدر ما يكشف عن دلالاتها المشعة في أكثر من اتجاه).


تكمن صعوبة القصة القصيرة جدًا، في أنها تحتاج إلى تكنيك خاص في الشكل والبناء، ومهارة في سبك اللغة واختزال الحدث المحكي والاختصار في حجم الكلمات المعبرة عن الموضوع، تثير الادهاش والروعة الفنية، فهي تحتاج إلى مهارة كاتبها، وهذه المهارة نابعة من المخزون الثقافي للكاتب كي يكون مؤهلاً لكتابة قصة قصيرة جدًا، وطالما كانت بهذه الصعوبة وبهذه المواصفات، فلا بد أن يكتبها كاتب متمرس باللغة، وقاص بارع في البلاغة، ومتقن للغة الشعرية، باختصار، ليس من المنطقي أن يخوض هذا الفن المعقد كاتبًا مبتدئًا، يرى في القصة القصيرة جدًا بديلاً سهلاً عن القصة القصيرة أو الرواية.
يمكن الاستشهاد بنماذج مختلفة من القصة القصيرة جدًا كي نؤكد على صعوبة هذا الفن: تقول قصة للكاتب الأمريكي غرامي جبسون: (ثلاثة ذهبوا إلى العراق. واحد منهم عاد). كتب فريدريك براون، وهو كاتب متخصص في قصص الرعب والخيال العلمي، أقصر قصة رعب في العالم تقول: (جلس آخر رجل موجود على الأرض وحيدًا في حجرة، ثم سمع طرقًا على الباب). وفي قصة (وجع) للكاتب الفلسطيني محمود شقير نقرأ: (كتبت قصيدة عن المدينة. قرأتها للمرة السادسة، وانتعش قلبها قليلاً وهى ترى كيف امتزج وجع المدينة بوجعها الخاص. مزقت القصيدة وهي تعيد النظر فيها للمرة السابعة، لأن وجع المدينة أكبر من قصيدتها، أكبر مما تحتمله الحواس).
أما الكاتبة الكويتية ليلى العثمان فتكتب في قصة (ظلم): (فتح كراستها.. قرأ بوحها.. عاصفة توسلها للحبيب أن يتزوجها. في ستر الليل، كانت سكينة تغوص في صدرها. أمام المحقق اعترف: غسلت عاري. قدم له المحقق تقرير الطبيب: القتيلة عذراء). فيما يقول الكاتب السعودي عبده خال في قصة (نزهة): (شعر بالاختناق داخل غرفته الضيقة، فراودته نفسه بالخروج إلى الفضاء الفسيح، كي يمد رئتيه بالهواء النقي ويبدد وحشته برؤية الناس، وعندما مد خطوته للشارع، واستنشق من هوائه مات).
إنها قصص قصيرة جدًا تتوافر فيها كل المقومات الأساسية الفنية للكتابة السردية، وهي تعتمد على الإيجاز والتكثيف والقدرة على الوصول إلى النهايات المدهشة، تستند في ذلك إلى خبرة طويلة في كتابة القصة القصيرة والرواية. وقد تنامي خلال السنوات الماضية الاهتمام بفن (القصة القصيرة جدًا) والاحتفاء به، إذ خصصت له مهرجانات وملتقيات ومسابقات في العالم العربي، وتشكلت رابطة في المغرب تحت اسم (الرابطة العربية للقصة القصيرة جدًا) بهدف جمع المبدعين والنقاد والمهتمين بهذا الفن في مؤسسة ثقافية راعية، تضمن حقوق هؤلاء، وتنظم ورشات تكوينية متعددة في مجال القصة القصيرة جدا، وتبادل الخبرات والمعارف والأفكار حول هذا الجنس الادبي الجديد في الساحة العربية. كما صدر أكثر من كتاب في هذا المجال، من ذلك كتاب (قصص عربية قصيرة جدًا) لنخبة من المبدعين العرب جمعت فيه قصص قصيرة جدًا لـ 108 كُتاب من كل دول العالم. كما صدر ضمن مشروع المتكأ الثقافي في البحرين لتبني النتاج الإبداعي المجموعة الموسومة «يوم واحد من العزلة – قصص قصيرة جدًا من الوطن العربي»، تضم 250 نصًا من تأليف نخبة من كتاب الوطن العربي.
من هذه الشرفة، ليس هناك من مبرر لأن نأخذ من «القصة القصيرة جدًا» موقفًا عدائيًا أو مشككًا في جدواها، وبدلاً من إضاعة الوقت في التصنيف والترتيب علينا التكيف والتأقلم مع هذا الفن، مؤكدين على حقه في الوجود كنوع أدبي مستقل، ضمن فنون السرد الأخرى كالرواية والقصة القصيرة. فهو إفراز طبيعي لمستجدات العصر، وسرعة ايقاع الحياة المعاصرة.
نحن أمام جيل شبابي جديد، توفرت له أشكال تواصلية حديثة مصاحبة للتقنية الحديثة كالفيسبوك والتويتر والانستغرام والحواسيب والهواتف النقالة وشبكة الانترنت والكتاب الالكتروني، استطاعت أن تفرض نفسها، وتؤثر في طريقة التفاعل مع الثقافة العربية، ولم يعد مقص الرقيب وتدخلاته، وسقف حرية الكتابة، وشروط ولوائح دور النشر، وسيطرة الإعلام الرسمي، مشكلة لهذا الجيل، فقد صاروا يعبرون عن أنفسهم باستخدام أساليب جديدة، ولغة جديدة، تخالف القواعد السائدة في الكتابة الإبداعية، فأصبحت اللغة المستخدمة هي اللغة الموجزة المقتضبة والجملة القصيرة. إضافة إلى أن هذه التقنيات الحديثة يسرت سرعة وصول المادة، وسرعة تلقي النقد والملاحظات من القراء والمتابعين الذي يعدون أحيانًا بعشرات الآلاف من الاصدقاء. أي كل ما من شأنه أن يوفر الانتشار السريع لأي كاتب في المواقع والمنتديات، وهذا بدوره شجع الكثيرين على دخول عالم القصة والقصة القصيرة جدًا، ونشر كتابات هزيلة لا تعد أن تكون خواطر فجة أو أخبار أو مقالة قصيرة سطحية عدوها قصصا قصيرة جدًا، وهي لا ترتقي بأي حال من الأحوال إلى صفة الأدب.
هنا يكمن المشكل الحقيقي: أن هذا الفن الصعب، مثله مثل أدب الأطفال، وقصيدة النثر، والرواية، تعرض لتطاول نسبة كبيرة عليه ممن يدعون القدرة على الكتابة خاصة مع ازدياد المساحات الالكترونية التي تتحرك من دون ضوابط. يقول أمبرتو إيكو: (إن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت الفرصة للحمقى ممن كانوا يهذرون في البارات ولا يسيئون للمجتمع، ويمكن اسكاتهم إذا تمادوا، أما في وسائل التواصل الاجتماعي فقد بات لهم الحق في الكلام شأنهم شأن الحاصل على جائزة نوبل، انه غزو البلهاء).
فمع انتشار المساحات الواسعة في منتديات القصة القصيرة جدًا في المواقع الالكترونية وخاصة الفيسبوك، وغياب دور النقد، وعدم الاهتمام بأية معايير للكتابة الأدبية، زاد من انتشار القصة القصيرة جدًا، وأصبحت أمام حالة مخيفة من التسيب والسهولة في هذا اللون من الكتابة، باستثناء كتابات قليلة تتوفر فيها صفات هذا الفن الصعب.
من الواضح أن هذه الظاهرة ستستمر، وسنقرأ المزيد والمزيد من الكتابات التافهة التي تندرج تحت مسمى (القصة القصيرة جدًا) ولكن المؤكد أننا سنكتشف تجارب جديدة ومهمة تضيف إلى هذا الفن، وتبدع فيه. سنستعيد مقولة دينغ هيساو بينغ الرئيس الصيني الراحل التي يقول فيها دفاعا عن سياسته الانفتاحية بأنك إن فتحت النافدة لتجديد هواء الغرفة فأنت معرض لدخول الذباب والبعوض ولكن هذا يجب أن لا يمنعك من فتح النافذة، فقط ضع شبكة من السلك على النافذة.