عفيفي مطر: عودة المخطوط الضائع

فوزي باكير، العربي الجديد

26 ديسمبر 2015

 
 

غالباً، بعدما يرحل كاتبٌ، وشاعرٌ على وجه الخصوص، يذهب ورثته وأصدقاؤه إلى أوراقه، يبحثون فيها عن المسوّدات والقصائد التي تركها، آملين أن يجدوا مجموعةً يمكن نشرها بعد رحيله، لتكون آخر ما سيصدر عنه، ويوضع بين يديّ قرّائه.

لكن، يبقى نقل هذه المخطوطات وطباعتها، عُرضةً للأخطاء؛ فكثيراً ما ترد في ما يصدر منها أخطاءٌ مطبعية، وأخرى تتعلّق بعدم فهم كلمة ما، فتُنقل بإملاءٍ غير سليم، قد يغيّر المعنى كاملاً، أو يجعله ليس مفهوماً، وقد يكون الشاعر أساساً لا ينوي نشر كل هذه المسوّدات التي لا تشكّل بالنسبة إليه أكثر من تمرين.

غير أن ما حصل مع الشاعر المصري محمد عفيفي مطر (1935 – 2010)، الذي صدرت له أخيراً مجموعة لم تُنشر في حياته، بعنوان “ملكوت عبد الله” (كتاب دبي الثقافية) كان خلافاً لذلك كلّه.

كان صاحب “أوائل زيارات الدهشة”، المولود في قرية رملة الأنجب التابعة لمحافظة المنوفية، يستغني عن المبراة لضبط رأس قلمه الرصاص.. كان يفضّل بريه بشفرة الموسى، بما يشبه طقساً اعتاد أن يمارسه عند الشروع بالكتابة.

ليس هذا الطقس إلّا جزءاً من طبيعة عفيفي مطر، التي تنحاز إلى مفردات الطبيعة، بما تُتيحه من علاقةٍ تأمليّة يبنيها الكاتب مع موجوداته، ويؤثّث من خلالها نصوصه.

لماذا لا يطّلع القارئ على هذه الطقوس والأجواء التي يمارسها الشاعر أثناء الكتابة؟ خصوصاً أنّ بإمكانها أن تُهيّئ فهماً أعمق لدى المتلقّي خلال قراءته القصائد؟ تساؤلٌ طرحه أحد أقارب الشاعر عليه. راقت الفكرة لصاحب “رباعية الفرح”، الذي كان حينها، في عام 2009، ينتهي من كتابة “ملكوت عبد الله”.

في يوم ما، كان جالساً في أحد المقاهي، يتأبّط مخطوطته، فمرّ به شاعرٌ وجلسا. انتهى اللقاء بأن أخذ الشاعر مخطوط عفيفي مطر، على أن يعمل على إصداره كما هو، بخط يد صاحب “من دفتر الصمت”.

اختفى ذلك الشاعر والمخطوط معاً، لمدّة ست سنوات، حتى يتفاجأ أقارب عفيفي مطر، وقرّاؤه، بصدور المجموعة قبل قرابة شهر، كما هي؛ إذ لم تُرقّن، بل صُوّرت وطُبعت؛ ليكون بين يديّ القارئ ما أراده الشاعر: مجموعةٌ له بخطّ يده، تُطلعنا لا على القصائد وحسب، وإنما على شيء من خلفية كتابتها.

منذ البداية، يواجه القارئ سؤال: من هو عبد الله؟ لنعرف أنّه هو الشاعر نفسه، محمد عفيفي مطر، إلّا أن عبد الله هو الاسم الذي كانت تفضّل أمّه أن تناديه به. يُطابق الشاعر في مجموعته هذه أُمّين معاً؛ الأولى هي والدته، والثانية هي قريته، أو ملكوته كما يحبّ أن يسمّيها؛ ليكون عبد الله هو اسمه القروي أيضاً. هكذا، لم تغادر معظم قصائد المجموعة رملة الأنجب، كما يظهر في تذييله للقصائد: المكان الذي كُتب فيه النّص، وتاريخه.

نقرأ في “ملكوت عبد الله” ما اتّسمت به تجربة عفيفي مطر الشعرية عموماً؛ إذ ظلّ مهجوساً بأجواء قريته، وما يقتنصه من أسئلةٍ يعود فيها إلى البدء، حيث الطين والماء والهواء والنار، وموقف الذات ومكانها من كل هذا: “وحيدٌ، ليس يرعاني سوى غنمي التي/ اختبأتْ ورائي وهي لا تثغو ولا تجترّ، كان الأفق ينخل جمره/ والرمل ينفخ صهدَه/ والريح تُنسجُ من طين دمي/ وخفق خطاي موّالي”.

يُلاحَظ في المجموعة، التي كُتبت قصائدها بين عامي 2006 و2009، إلى جانب الحضور الطاغي للقرية، ذلك النَّفس السردي الذي تتسم به القصائد؛ فلا نجد واحدةً قصيرةً فيها، وإنما هناك نزوع نحو الحكي لدى عفيفي مطر، يعود، غالباً، إلى تلك التأمّلات الطويلة التي تأخذ الشاعر إلى أعماقه، وتاريخه الشخصي، وذكريات المكان: “كنّا في فجر العاشرة، وكنّا رجلاً وامرأةً لم نُخلقْ بعدُ/ ولم نعرف أسماء الزغب/ ولا أسماء الحيرة بين النَّبْقِ على الأغصان وتحت الثوب”.

– See more at: https://www.alaraby.co.uk/books/2015/12/26/%D8%B9%D9%81%D9%8A%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B7%D8%B1-%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%B7%D9%88%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D8%B9#sthash.kAS5EET1.dpuf