“إلى أين تأخذني أيها الشعر” مأزق الكتابة ومأزق الفن

download (10)

 

شوقي بزيع

المهل بين مجموعة ومجموعة تتفاوت، لكن مجموعته الأخيرة، “إلى أين تأخذني أيّها الشعر” كانت استثناء القاعدة، فقد أنجزت دفعة واحدة وبدورة شعرية واحدة
لا أضيف الكثير إلى ما سبقني إليه شعراء آخرون إذا قلت بأنني حين أفرغ من كتابة مجموعة شعرية يتشابك في داخلي نوعان متغايران من الأحاسيس. فثمة من جهة شعور بغبطة الإنجاز وفرح التخفف من حمولة اللغة وثقل المكابدات التي ترافق مخاض الكتابة. وثمة من جهة أخرى شعور محض بالخواء، وشغور النفس من كل ما يتعلق باحتمالات تجديد الطاقة التعبيرية التي خمد أوارها بالكامل. ثم يستمر الأمر طويلاً بحيث إنني خلدت ذات مرة إلى الصمت لأكثر من سنوات خمس، في حين أن المعدل الطبيعي لتوقفي عن الكتابة إثر انتهاء أي عمل شعري لي يتراوح بين عام كامل وثلاثة أعوام. وفي كل مرة تتجدد في داخلي أعراض الكتابة نفسها التي تنتاب النساء الحوامل بعد الولادة. وفي كل مرة أيضاً أشعر أنني شبيه ببطارية فارغة لا سبيل لها إلى الامتلاء بعد، وأتصفح بدهشة بالغة عملي السابق كما لو أن أحداً سواي هو الذي كتب قصائده ومقطوعاته.
لقد رافقني الخوف من النضوب والإصابة بالسكتة الشعرية المباغتة على امتداد حياتي. ولكن هذا الخوف لا يعود مع التقدم في السن مجرد خوف ميتافيزيكي أو فوبيا متخيلة وغامضة المنشأ، بل هو يصبح أكثر ملموسية وصلة بالواقع من خلال تقهقر الحواس ونكوص الجسد وتصلب شرايين اللغة. وهو أمر يؤكده النضوب المبكر للكثير من الشعراء الذين يخلدون بعيد خمسيناتهم إلى الصمت المطبق، أو إلى تكرار ما سبق أن كتبوه من قبل. على أن ذينك الصمت والسكتة ما يلبثان، بالنسبة لي، أن يفسحا الطريق لنوع من الدبيب الغامض الذي يأتي على شكل طنين في الروح قبل أن يحل في جمل موزونة ومقطعة الأوصال. وقد تبدأ العودة إلى الكتابة أحياناً من إلحاح فكرة أو مكابدة روحية أو هاجس وسواسي ما يلبث أن يختار في أقبية الرأس شكله وإيقاعاته. وقد يحدث العكس تماماً حيث تفرض المتتابعات الموسيقية الزمنية موضوعاً مؤجل التحقق، وغائصاً في أعماق اللاوعي منذ زمن بعيد. ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن عودتي إلى الكتابة إثر كل انقطاع لا يحكمها هاجس إصدار مجموعة جديدة بل تتم تحت ضغط فكرة القصيدة التي يطاردني نثار تفاصيلها وعباراتها لحظة بلحظة إلى أن أفرغ من كتابتها. أما الوقت اللازم لذلك فيتراوح بين الجلسة الواحدة كما في قصيدة “مسافة”، والأعوام الثلاثة كما في قصيدة “مرثية الغبار”. وباستثناء مجموعتي “صراخ الأشجار” التي تشتغل على موضوع واحد هو العلاقة مع الطبيعة وشجر الحياة الأم، و “سراب الحنين” التي تشتغل على شاعرية اللغة نفسها، حروفاً وصيغاً تعبيرية، وعلى تأنيث العالم وإعلاء حالة الحب، فإن ما يربط بين المجموعات الأخرى هو التجاور الزمني الذي لا يتعدى السنوات الثلاث أو الأربع، في حين أن موضوعات القصائد لا تندرج في سياق واحد أو فكرة بعينها.

استثناء القاعدة
قبل مجموعتي الأخيرة “إلى أين تأخذني أيها الشعر” لم يحدث من قبل أن كتبت مجموعة كاملة خلال فترة زمنية واحدة. ففي مقتبل العمر لم أكن لأنجز غير قصيدة واحدة أخلد بعدها إلى الصمت. ثم حدث بعد ذلك أن “شيطان” الشعر بدا أكثر كرماً وتساهلاً معي حيث صرت أنجز عدداً من القصائد في “الدورة” الشعرية الواحدة. لكن ما أنجزه لم يكن بأي حال يكفي لإصدار مجموعة كاملة، بل كان عليّ أن أنتظر دورات أخرى مماثلة لتحقيق ذلك. وأستطيع القول بأن مجموعتي الأخيرة كانت استثناء القاعدة حيث إن قصائدها الثلاث عشرة لم تتجاوز فترة كتابتها الخمسة أشهر. فبعد سنة ونصف من الصمت الذي أعقب “فراشات لابتسامة بوذا” بدأت تلفحني نسائم الشعر التي أخذت تشتد رويداً رويداً إلى أن جرفني بالكامل هبوبها العاصف. وكانت القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها هي باكورة التجربة الجديدة التي دفعتني مجدداً للعودة إلى مقهى “دبيبو” البحري، وإلى الطاولة نفسها التي تهيئ لي وليمة الاستعارات والأخيلة منذ ثلث قرن. ومع أنها ليست المرة الأولى التي أحوّل فيها التجربة المضنية والممتعة للكتابة إلى موضوع شعري، فقد وسعت هذه المرة دائرة الأسئلة المتعلقة بمقايضة الحياة بالشعر والتخلي عن الجمال الملموس لمصلحة الجمال المتخيل للكلمات. أما عنوان القصيدة فمصدره على الأرجح إعجابي المضمر بالعبارة التي كان وليد جنبلاط يستمرئ طرحها على نفسه وعلى الآخرين في لحظات انسداد الأفق السياسي تحت صيغة السؤال الملح “إلى أين؟”. وقد يكون العنوان الذي أعطيته في ما بعد للمجموعة الجديدة متصلاً في اللاوعي بسعي سركون بولص للوصول إلى مدينة “أين” التي جعلها عنواناً لإحدى مجموعاته.
بعد ذلك غرقت داخل نفسي لخمسة أشهر متواصلة، حيث انقطعت عن كل شيء سوى عن ذلك المقهى البيروتي البحري المطل على صخرة الروشة والذي يقترن عندي بلعاب الشعر كما يقترن صوت الجرس بلعاب كلب بافلوف. ولما كنت كاتباً نهارياً عكس معظم الشعراء، فقد كنت أقضي النهارات كلها في مغالبة اللغة التي تتدافع في مخيلتي كالسيل قبل أن ألتقط بعضاً من رذاذها المتساقط فيما يعود معظمها إلى عهدة النسيان. أما فترة الليل التي أعود خلالها إلى منزلي في رأس بيروت فلم تكن بدورها فترة للراحة، بل كنت أتلقف بين ساعة وأخرى ما يهيئه التداعي الإيقاعي من الجمل والصور التي استعصى عليّ التقاطها في جلسة المقهى. وبعدما فرغت من القصائد الأربع التي تدور حول مأزق الكتابة الشعرية وتمثلاتها المختلفة، ألحت عليّ فكرة الكتابة عن مأزق الرسم والعلاقة الصحبة مع الخط واللون، كما مع الفراغ والكتلة، من خلال تجربتي الفنان اللبناني جميل ملاعب، والفنان الاسباني السوريالي خوان ميرو. لكن كل ما كتبته في تلك الفترة من الزمن لم يكن ناجماً عن إرادة واعية أو تصميم مسبق. إذ كثيراً ما كنت أخلد إلى النوم غير عارف بما سأكتبه في اليوم التالي. ثم تنبجس فجأة من الرأس فكرة للكتابة كان قد تم تأجيلها منذ سنوات عدة ولم تجد طريقها إلى الاختمار. فالكتابة عن “رقصة سالومي” ظلت تلح عليّ منذ عشرين عاماً، أي منذ شاهدت الفنانة السورية رغدة تؤدي تلك الرقصة ببراعة مدهشة على مسرح جرش. غير أنني عملت على تأويل الواقعة التاريخية المعروفة من منظور آخر، حيث تقع سالومي في غرام غير متبادل مع يوحنا المعمدان ثم لا ترضى انتقاماً لكرامتها المجروحة بأقل من رأسه المقطوع. أما “سبعة وجوه للانتحار” فقد ارتسمت ملامحها الأولى إثر قراءتي لكتاب جمانة حداد المؤثر عن الشعراء المنتحرين، ثم أخذت طريقها إلى التحقق إثر وقوف شقيقتي الصغرى ليال أمام الهاوية نفسها ونجاتها بأعجوبة من الموت. وقد عبرت، وهي الممسوسة أيضاً بالشعر، من تلك التجربة القاسية من خلال مجموعة بالغة التميز والصدق بعنوان “جرعة زائدة”. وفي حين بدت “عزلة الخادمات” تعبيراً عن تأملي المتعاطف في عوامل الوحشة الصامتة لخادمات المنازل، بدت قصيدة “مسنون” انعكاساً للمآل المأساوي الذي يبلغه البشر في فترة الشيخوخة، وتتبعاً لخطاهم الواهنة التي يبالغون في إبطاء وتيرتها بغية إطالة الطريق إلى حتفهم النهائي.

سلة المهملات الشعرية
لم تكن القصائد المتضمنة في المجموعة الأخيرة هي كل ما أصبته من حصاد اللغة في فترة الانخطاف تلك. ولكنها الجزء الذي فرغت من تنقيحه وإعادة صياغته لكي يصبح صالحاً للنشر. أما الجزء المتبقي فقد عمدت إلى رمي بعضه في سلة المهملات، فيما احتفظت ببعضه الآخر لمعالجة لاحقة لست واثقاً من نجاحها. كما تجدر الإشارات في ختام هذه “الاعترافات” الى أنني لا أحسن كتابة الشعر إلا على إيقاع النرجيلة المنتظم وفي عهدة الدخان المتصاعد منها مصحوباً بغيوم اللغة وقطعانها الهاربة. ولما كنت أسير الكثير من متلازمات الكتابة وطقوسها، فأنا لا أكتب إلا بالحبر الأسود دون سواه من الألوان. ربما لكي أتلذذ بجماله الضدي مع الورقة البيضاء. كما أنني أكتب مسودات القصائد بخط شديد الصغر، ولا أترك الورقة إلا بعد أن أستنفد كل ما تبقى فوقها من بقع البياض. وقد لا يبقى من العبارات التي تم شطبها بالكامل سوى عبارة أو عبارتين اثنتين في الصفحة الواحدة. لذلك لا أترك ورائي بعد “تبييض” القصائد أي أثر للمسودات. ليس فقط لأن قراءتها من قبل أي شخص سواي هي مسألة متعذرة، بل لأن رؤية مسودات الشاعر مماثلة من الناحية الرمزية لرؤية الشاعر عارياً بالكامل. ثم لماذا على الشاعر أن يطلع قراءه على “مطبخ” شعره الآهل بالحماقات ونثار الجمل المبتورة والمهلهلة والباعثة أحياناً على الضحك؟ أقول هذا على محمل الرمز، وأتذكر جورج أورويل الذي صرح في أحد مؤلفاته بأن على المدعوين إلى حضور الولائم أن يكتفوا بتناول الأطباق الفاخرة التي توضع أمامهم، لأن ذهابهم إلى المطابخ سيتسبب بإفساد شهيتهم إلى الطعام مهما بلغ بهم الجوع!