أين أنتَ يا أبا تمام؟

p02nr31s

 

إنَّ الشكوى من إبهامِ الشعر الحديث وغموضه قد تزايدتْ بالشكل الذي أضجرَ حتى الشاكين أنفسهم، فما بالك بالمشكوّ منهم والشاكين إليهم. بعض النقاد والقرّاء الذين في أفضل الأحوال لا يرتضون لأنفسهم إلا القراءة المبرمجة والمليئة بأحكام القيمة المسبقة، يلومون شعراء الحداثة، كما سادت هذه التسمية التي تحتاجُ إلى تمحيصٍ هي الأخرى .

إذ هُمْ، من وجهة نظر هؤلاء النقاد والقراء، أصلُ البلاء المستفحل. وهم الذين أغروا شعراء آخرينَ على سلكِ هذا الطريقِ المنحرف، والذي يشوه الشعر ويكدِّرُ نقاءَه، كما يزعمون.

لا أتصور أنَّ هذه الإشكالية وليدة هذا العصر. بل إنها جدليةٌ قديمةٌ جداً. على سبيل المثال لا الحصر، في مقدمة كتاب (شرح الصولي لديوان أبي تمام)، يأتي موقفٌ لافتٌ. استنكر أحدُهم غموضَ الشاعر الكبير أبي تمام قائلا له: “لِمَ لا تقولُ ما يُفهم؟” . فأجابَ في جملة استفهاميةِ مقلوبةٍ تنمُّ عن ذكاءٍ وحذقٍ نادريْنِ: ” وأنتَ، لِمَ لا تَفهمُ ما يُقال؟”

كذلك في عصر ما قبل استقرار شعر الحداثة، كان ثمة جدلاً بينَ الفريقين. ضمن سلسلة “عالم المعرفة”، في مارس 2002م، نُشِرَ كتاب ” الإبهام في شعر الحداثة” للدكتور عبد الرحمن القعود. وكانَ يُشير إلى أنَّ “المقالات النقدية حول الوضوح والغموض كانتْ قبلَ أنْ يتبلورَ شعر التفعيلة ويستقر،وشعرُ التفعيلة هو باكورة الشعر الحداثي وجنسه الثاني، في الوقت ِ نفسه، إلى جانب قصيدة النثر”.(انظر الكتاب المذكور، ص10)   

 

من جانبٍ آخر، لا الغموضُ ولا الوضوحُ  يشفعان للشعر البائس المزيف.ما يهمُ حقاً وفي العمق هو الإبداع. يتشابكُ الغموض والوضوحُ  في الإبداع الحقيقي. إذْ تقرأ مسرحية “هاملت” لشكسبير، تقرأ خليطاً غرائبياً ولذيذاً من الأحداث والتشابكات والشخوص والرؤى والطرائق والألوان والحيوات والعوالم.

الإبداعُ في صميمهِ غامضٌ، بخاصة في ما يتعلقُ بالفضاءِ اللاواقعي الذي يخلقه. غموضهُ يتأتى من غموض الحياة نفسها. هل الحياةُ واضحة ؟هل الليلُ واضح؟ هل الجمال والقبح واضحان؟ هل الحبُّ واضح؟ هل الله  واضحٌ، حقا؟

هناكَ أبعادٌ تحتاجُ إلى زحزحةٍ في مسألة الغموض، لكنَّ البعدَ الأكثر أهمية هو البعد التخييلي، وهو قد يأتي متشابكاً مع أبعاد معرفية وثقافية وفلسفية وميتافيزيقية وصوفية وأسطورية وسواها.

لا يُطلبُ  الغموضُ لمجرد الغموض. كثيرٌ من ضعاف الموهبة وقليلي الثقافة  فهموا بصورة سطحية  كتابة شعر النثر والحداثة.

أجيالٌ كاملة صارت تكتبُ بنمطية جوفاء ، فقط من أجل التعمية والاستعراض المتفذلك. هربوا من مطب نمطية التقليد، ووقعوا في شَرَكِ نمطيةٍ  أشدَّ جهلاً وفتكاً وضحالةً من الأولى.

كلُّ ذلك حصل ويحصلُ باسم الحداثة والتجديد والتجريب، والحداثة والتجديد والتجريب براءٌ من هذه التجارب الخاوية والهزيلة.