تصنيع الجواري «عندما تستيقظ الرائحة»(*)

03-2908

إذا كان (صنع الذات هو إحدى قواعد التاريخ) فإن المحاولة التي جرت في 1980 وماتلاها لكتابة التاريخ العربي الاسلامي بأمرة الحاكم في العراق يمكن تشبيهها تقنياً بفرمتت التاريخ كما كانت تتم عملية تنظيف السجون العراقية آنذاك وعلى المستوى اليومي انفقدت الذاكرة الجمعية بسبب انظمة السلوك الجمعي التي تحشرها العسكرتارية في الذاكرة الوطنية.. (الأمهات.. لايتذكرن أعياد ميلاد من ينجبن. التقويم الرسمي يسير وفق حملات التبرع وعدد البيانات العسكرية أو الطلعات الجوية والمفكرات التي تدوّن تواريخ إشاعات الإنتصارات/49).. وعلى المستوى الاجتماعي نحلت اواصر الجيرة بين عوائل المحلة الواحدة بسبب (هجمات التسفير التي حدثت في أوائل السبعينات أولا، ثم تكررت في الثمانينات/48) هذه الغارات الزيتونية على البيوت البصرية العريقة والتي استهدفت في البدء التجار، حين استقوت سلطة البعث.. (صعبت علينا الموازنة بين التستر والتنكر لتلك الجيرة/48) ثم صّيرت المدينة ساحة حرب (كأننا في ساحة الوغى نخوض حربا بالسلاح الأبيض/57) ف..(لا يستجد في الشارع غير زي للجيش الشعبي وزي للمخابرات وزي للجنود، وشوارب رجال تستفز، تلك هي الثمانينات لم تكن غير نذير تتسربل بين الوهمي والحقيقي/ 49).. هذا العنف المرئي والملموس،عطّل النظام الفسلجي في أدمغة الشبيبة وثبت تاريخ العنف العراقي في الذاكرة وأمحى النظام المعلوماتي الخاص بالفرد وحسب الحالة (مروى) وهي أخت شهيد شيوعي استشهد أثناء التعذيب في ثمانينات الحرب العراقية الإيرانية/ ص193 وزوجة الشهيد الشيوعي المقاتل في حركة الأنصار:(هل هي الحروب، أم التاريخ الذي درّسونا إياه، أخشى انني أضعتُ التواريخ عمداً. لم أعد أجهد نفسي في فهم شيء ولاحتى حساب عمري، كم كان عمري عندما قبلني رضا، عندما توفي أبي، عندما تزوجني عدنان، غياب أخي، معركة ديزفول، قصف مستشفي الطوارىء للولادة، مديرية الأمن في البصرة، في بغداد، الشعبة الثالثة، جزيرة يولاند/ -46 47).. ليس هناك سوى شراسة الصمت القسري و(ظلمة غير مرئية تشتد في البلد. قسوة تصبغ كل شيء../57)..
بيوت البصرة تحت رحمة قصف المدفعية الإيرانية ومداهمات الزيتونيين.. (يأتي الانذار ليلاً بأن نغادر.. قوافل التهجير الى الحدود بسبب تبعيتنا الإيرانية. ولاؤنا للوطن لاحق لنا فيه..حملة تهجير.. يرفض الجيران شراء ما يعرض للبيع من أثاث.. استنكارا للقرار.. الكل صار مطاردا، الكل فرهود : المسيحي الشيوعي، المؤمن/ 76) والبصرة بحد ذاتها تهمة وليست مدينة.. (نتهم لأننا من أهل البصرة/ 94).. هذا القيء السلطوي يدفع مروى البصري وهي في مرضها النفسي الى هذا البوح القاسي.. (أود لو أحمل كقياصرة الصين لئلا تطأ قدماي تلك الارض الملوثة وتلك الأرض أجسادنا.. /68).. هل يمكن معالجة (مروى) الحالات العراقية المصابة بـ( تشتت ذهني حاد كجزء من حالتها المرضية/56): في أمن البصرة يكاد الدخان يخنقها اثناء التحقيق يتحرشون بجسدها ليسقطوها اخلاقيا سياسيا/ص173 ومروى تعرف جيدا ان البراءة من الحزب سقوط سياسي مدمرا./ 123 ونهلة التي تكابد من علاقتها برضا لاتتوقف عن انتاج سؤالها الطموح.. (لِم َ التنازل هكذا ببساطة عن الحياة ونعمها والاكتفاء بالقليل حدا يصل الى الى الخنوع والذلة يسمونه بالمقابل قناعة ؟ لمن؟ ولماذا تكون هذه الصفة ايجابية ؟/ 118) وتتساءل بخصوص رضا (أيتعين عليّ ان أعيش ركوده، إحباطه ثمناً لحبه الجميل وشقائنا المقدس؟).. ونهلة تكابد من مثنويتها النفسانية..(في داخلي يتصارع إحساسان قاهران، إحساس بالظلم لكل مامر بي واحساس بالذنب وكأني المسؤولة عن كل مايحدث/129).. نهلة صباح أو هيلينا سابا كما صيرت اسمها بالدنماركية لا تتوقف عن انتاج الاسئلة الذاتية : (ماالهدف من حياتي؟ ماذا أريد؟ ما المقصود بالتطور؟ هل تغيرت بالفعل؟ هل عرفت رضا حقا؟، هل أعرفه الآن؟ ماهي حدود الإنسان، إن لم يكن له دين ؟ مامعنى السعادة؟ هل هي مطلبي؟ ما الذي سأقرره بشأن تربية الطفلين؟ هل توفر الأمان لي هنا؟ هل الابتعاد عن المشاكل اليومية العملية هو الذي يفتح لي بابا للبحث والسؤال/149).. ويبدو انها أسئلة من انتاج المنفي وهو يدخل في قانون وحدة وصراع الاضداد في الذات العراقية المرهفة.. نهلة متزوجة من رضا الشيعي الشيوعي التبعية الإيرانية المتهم (بالولاء المريض للحزب/187) رضا الذي (امتلكته نهلة منذ الليلة الاولى، ابتلعته بعينيها روحا وجسدا/ 204).. ولرضا اسئلته ايضا التي تنبثق حين يتذكر اناقته في سواه.. (ملابس حسن تعيدني الى أيام كنت فيها الأنيق البارز من بين الشباب .هل هي موضتي التي صارت قديمة فراحت تبحث عن أحدث ماهو موجود ؟/193) هذه الخيوط النفسانية المتشابكة الشليلة،هل هي مفاتيح العلاج الكافية بالنسبة للطبيبة النفسانية الدنماركية ؟.. ألا يحتاج الامر الى حفريات معرفية في الجذر العراقي..(أحداث ضخمة، خاصة، عامة، نظام بوليسي، أسماء كثيرة، أحزاب، أديان، طوائف، قصف مدفعي، سجن، لا تفاصيل لا تعد/50) كيف ستتفهم الطبيبة النفسانية الدنماركية ؟ إعدام شقيق مروى الشيوعي.. منتصف تلك الليلة دقات متتالية على الباب الخارجي وحين يفتح الأخ الأكبر الباب، الثلاثة القادمون يصر أحدهم بمثول الأب..لاستلام الجثة/ 158… هل يستحق الرسام الهادىء الاعدام، بسبب وشاية لأنه جاهر يوم وقال..(لاوطن يزهو بنا ولا وطن نزهو به. هل العراق صار حلما/ 188)…وحتى لا يتشتت عمل الطبيبة النفسانية قررت الاطلاع على التاريخ العراقي كما داعبتها (فكرة أخذ دورة دراسية في مبادىء اللغة العربية/51)..لكن ثمة برزخا أكبر من لغوي بين العراق/ الدنمارك وأقول للطبيبة النفسانية الدنماركية ماقالته نهلة صباح/ اليهودية البصرية التي صيرت اسمها في الدنمارك (هيلينا سابا)..وهي تتحاور مع صديقتها الدنماركية تينا..(لن يمكنك ان تتخيلي حجم مامررنا به في العراق .هل تتخيلين وجود نظام في العالم يفتك بمواطنيه لكي ينقرضوا/ 124)… هذه الانتاجية الدموية الطالعة من التصنيع العسكري لاتروّج لسوى صناعة واحدة تشمل العراقيين والعراقيات من يكرههم النظام ومَن ضلعوا فيه ومن أجله وسيكرههم أمثال ضحايا قاعة الخلد في 1979 وغيرهم.. واعني بذلك ان النظام سيتفرغ حتى يوم سقوطه الى : تصنيع الجواري.. وهي صناعة ذات شبكات متداخلة في تراتبيات المجتمع العراقي.. لا تستثني حتى رأس النظام في النهاية..وهي صناعة تقف بالتضاد المدبب مع تلك القاعدة التاريخية الذهبية المتفكرة بحيواتنا والساعية لشحن حيواتنا باخضرارها والتي ترى..(أن صنع الذات هو إحدى قواعد التاريخ)… وكل مانعنيه الآن لايمثل إلاّ بقايا التركة الملعونة..والعنف الذي يواصل دوامه الاضافي في العراق ومن المستحيل تبريره أو شرعنته…
لا تشارك في الحياة الدنماركية، بل ثمة استقلالية تصيّر الوحدة مهنتهم وهذه الاستقلالية احدى اتصاليات التضاد الاجتماعي مقارنة بالمجتمع العراقي المشروط بالأبوة الدائمة حيث (لاحق للفرد وعلى الأخص المرأة لكي تنفرد عندنا، سواء في غرفة في البيت أو مقهى، سيبدو في الأمر حمق ما سيظنون حينها إنها مريضة أو مخبولة/ 103) وهكذا على الفرد ان يكون داخل نطاق السيطرة..حتى يمكن مراقبة تحركاته الجوانية : البيت وتحركاته البرانية : المقهى وبالطريقة السلطوية هذه يكون الفرد بين قوسي سلطتين من انظمة السلوك الجمعي (أنظمة الكموفوروميا)..فالإنسان هو هو مقموع/ مغيّب/ ملجوم/ او..مشحون بوعي زائف.. هل نجد أس الاشكالية في البيت الدنماركي ؟ أليس البيت هو (المكان الذي يجب ان نقبل فيه) حسب الشاعر روبرت فروست، وحين اقول البيت أعني النظام المتبوع في البيت،فالعلاقة بين البيت والنظام هي اشكالية الشكل والمضمون ويبدو ان الذرة الاجتماعية تشظت في العائلة الدنماركية، فتمرد الشكل على نمطية المضمون..اختلفت تربية البيوت فأختلفنا بما نتبناه من أفكار/ 114).
الوطن البديل ولا أقول المنفي مع، نهلة صباح التي انسلخت عن الوطن الاول بقناعتها وتماهت بالوطن البديل.. .(فالوطن صار هنا في كوبنهاجن،مصطلحاً قديما، الإكثار من الحديث عنه علنا يُعد أمراً مستهجناً، يتعارض مع مفهوم الدنماركيين لاندماجنا في مجتمعهم/ 120) وستتعامل نهلة مع وطنها العراق، وفق الحركات السرية المنغلقة على ذاتها..(يبقى الوطن وطني وهو شأن خاص هنا، التأمل في أركانه، التغني به، التباكي عليه أو الحنق أمرٌ خاص يجدر بنا أن نفعله داخل شققنا/121)
وتتهم يساريتها بالعمى والعاطفية/ 121 نهلة تخلصت من الشخصية المسرحية في الانسان الشرقي واستعادت البعد الواقعي في اليومي وحسب قولها.. (هذا المجتمع يمدني بالثقة في نفسي/103) وهذه الثقة تجعل الانسان متحررا من الاتكالية والتواكلية ومن اثقال التزيين (أشعر بخفة الآن لتتحرري أيضا من المكياج والكعب العالي والحلي) لكن الكعب العالي والتنحيف وشد البشرة وعجينة السيلكون ومشتقاتها والكاميرات الخفية والعباءة الفرنسية التي كانت تفضلها المرأة العراقية في ستينيات القرن الماضي على سواها و(شماغ) بروجية…الخ لم ينتجها الشرق الحزين بل هي من موتيفات غابات العولمة لتوهمنا بالأوربة والأمركة.. وتجعلنا في حومة المجتمع الاستهلاكي او المجتمع الريعي.. لكن مواطن العولمة لاتستهويه هذه الالعاب التزينية فهو منشغل بسواها أو متوحد بعزلته التي يسميها استقلالاً ! فالتفارق الدنماركي له ممهدات تلقائية فالأنا هي الماثلة ولاشيء سواها وكما تخاطب (نينا) نهلة قائلة.. (اسمحي لي ان استعير الصيغة (نحن) التي تتحدثين بها دوما.نحن بين قوسين لم نعتد على المشاركة كما اعتدتموها .نحن نكبر وننشأ باستقلالية، بالأحرى نتربى على احتراف الوحدة/104) هذه التربية/ الفايكنك تشفط الحيوي في الانسان وتخصبّه بالربوت حتى في وهو عسل الكلام.. (حتى فيما يخص الفراش، نحن بين قوسين لا نتشارك في بهجة الممارسة،لانسقي بعضنا متعتها، لا، بل ينصرف كل منا في عالمه الخاص حتى ننتهي)..هنا سأضع بين قوسين الوحدة السردية الصغرى التالية..(ينصرف كل منا في عالمه خلالها)..هل السبب المساواة بين الجنسين التي انمسخت الى أنانية إنتباذية ضمن (حرب باردة.. جعلت الانشداد المطلوب بين الجنسين والشغف ببعضهما يتناقص ويتناقص، أصاب الإنشداد الطبيعي إرباكا حتى فقد الجنس بالتالي طعمه، صار مثل احتياج غريزي محض. صرنا نؤديه بلا قدسية، مثلما نؤدي تمرينا رياضيا/ 115).. مابين القوسين يجعلني اتساءل: ضمن فضاء الحرية المتاحة لماذا لم يتحقق للدنماركيين هذا الانصراف العلني للعالم الذي يحلمونه ويواصلون تحلميه جينيا؟ اي مقموع محذوف من نص الحياة بطبعتها الدنماركية..؟..أليس ثمة انظمة سلوك جمعي تسلب الانسان الدنماركي حياته ف(هذا المجتمع وكأنه يسلب ُ المرء، تحديه وجسارته ويُخضعه للعيش ببلاهة ضمن الإطار القانوني الآمن له/107)..
ثمة علامة فارقة أخرى تختص الفارق الهووي في الذكورة وحسب الدنماركية نينا.. (المشكلة بأن الرجل الشرقي قد يعرف تماما ما يريد، شخصيته محددة . أما الدنماركي فهو محتار، لا يعرف مايريد ولا ما تريده المرأة منه، ربما فقد في خضم المنافسة بينه وبين المرأة جزءاً من هويته، بالتالي فقد أصابه شيء أشبه بالإحباط واللامبالاة، ربما العطب/111) لكن أجمل ما في هذا المجتمع الدنماركي هو.. (لن يموت أحدٌ من الجوع في هذا البلد أو ينام على الرصيف… إن حصل تطور في العالم فهو يكمن في ادراكنا لضرورة التمتع بالحياة يوماً بعد يوم/109) وهذه الجمالية الكبرى بالنسبة للإنسان العراقي.. لكن للأسف يبدو ان الاقتصاد الاسلوبي في الحياة اليومية الدنماركية يبدأ مع اللغة المرّشدة (آمل ان تطلق مخالطة الدنماركيين لساني في اللغة رغم ترشيدكم في الكلام/145)..ويتسرّب الى المشاعر الانسانية ومثال ذلك حياة نينا.. (ليس على رف حمامها غير كريم لدهن الجسم ومانع تعرق لايحوي مواد كيمياوية أو عطورا . نينا تقنن في استخدامها لكل شيء..تقنن في ماتحتاجه من طعام وملبس وتقنن أكثر في استخدامها للماء والكهرباء… وإن كان في كل ذلك حرص على البيئة ففي تقنينها للكلمات والمشاعر أحيانا مايصعب على الفهم ويستفزني./113) ونينا تتصدى للمنافسة بين الجنسين بقوقعة الفردية.. (هي تفضل الوحدة على التقيّد بعلاقة تدخل بها في منافسة وحساب مع الرجل/114) وهذا التصدي أشبه مايكون بالهبوط الاضطراري..(الأنانية حق مشروع وجميل لكنه حق مكروه عندما يتضخم ويتضخم. لايمكنك خنقه).. نينا تتهم الشيوعية العراقية بغيابها عن الوعي ضمن العولمة وحسب قولها (أنتم تزهون بمبدأ لم تتعمقوا فيه، لاتفقهونه لأنكم من منقطعون عما يجري ويدور في العالم/ 119).. وربما يكون السبب ان نينا لاتكترث لغير اليومي الذي تعيشه.. (نحن نتعالى على القيم، نحن ابتعدنا عن المبدأ والفكر، لاوقت لدينا لنتعمق في شيء..الحزن، الفرح،الجيد، السيء، ليس لدينا تورط بالحياة ومهجة مثلكم، لافرق، نكاد عموما نشبه بعضنا في كل شيء…جيل مغّرب عن ذاته، جيل أناني ولايفقه شيئا../125) لكن ثمة تفارق بين نهلة. (اكتشفت بأن احتياجاتنا النفسية أنا ونينا في أزماتنا تختلف كثيرا/ 148).
كلام الإنابة..
تتناوب الألسن لتتحدث عن سواها ولينوب سواها/ الآخر أو منجزها الابداعي في الحديث عنها، نعرف نهلة من خلال مروى ونعرف نرجس من لسان مروى وهكذا سنعرف رضا/ عدنان/ وسنعرف مروى من خلال نهلة احيانا نتعرف علي ابناء مدينتنا البصرة وبناتها من خلال الآخر البعيد/ الاقرب لهم منا وسبب قرب البعيد هو المسافة الزمنية الفاصلة/ الواخزة بيننا وهكذا تكون المحللة النفسانية الدنماركية،اقرب منا في الرابط الاتصالي..
تراتبية الإنابة.. مروى البصري..
لاتتحدث مباشرة، وحسب المحللة النفسانية.. (تبرز في رأسي أثناء قراءتي وهي تقول/65) فنتعرف على مروى المخذولة/ المحبطة.. مروى المحاطة بأسلاك اجتماعية شائكة، والتي تحسد ملكية الطيور التي..(تملك سماء بأضعاف أضعاف حجمها) مروى التي سرقت نهلة منها حبيبها رضا، ومروى التي ارتبطت بعدنان و..(هاجس الانفصال يشد عدنان بقوة/ 65) ومروى ولاتتحدث عن نفسها، لكن الطبيبة التي تنوب عن السارد العليم تخبرنا من خلال الملف الذي بين يديها ان مروى..(لم تأت ِعلى ذكر من أعدموا من عائلتها، لم تذكر ماتعرضت له هي وأخوتها من قبل أجهزة الأمن هناك/ 21) ربما ارادت مروى التحرر من رموزها كما ترى المحللة النفسانية،فهل تعيش بحكمة أصابعها الملونة واصابعها أكثر بلاغة من لسانها ولاتلتقط لاتلتقط للحظة فوتو اضوية ساطعة بل عبر ممرات من الهذيان الذهني الناصع/ الجارح كشفرة حلاقة عذراء..(مروى البصري تفضل ان تظهر عالمها السريالي كانت تشك بأهمية الحديث .أختارت رموزا أثيرة في حياتها لتتحدث عنها/13) ومروى تتصدى لفوهات الميديا بفرشاتها:(ألوان الليلة الرابعة : تخطيط لنصب ربما يجد له مكانا صغيرا يوما هناك، ليحل محل واحد من آلاف النصب للقائد/23).. ومروى تحيي الموتى بفرشاتها..(لن أرتدي السواد من أجلك يانرجس..أقسم أرسمك إلهة جبارة/ 219).. ومروى لاتتحدث عن نفسها بل عن الآخر الذي تكتمل به (هو الآخر المكمّل الذي نشتاقه.. أم هي تلك الروح الثقيلة التي تسكننا ولايمكننا حملها لوحده؟/59) تتحدث عن نهلة/ عدنان/ رضا وعن (نرجس) البصرية/ العراقية، هي نرجس الميتة في حياتها بضربة نرد..وهي نرجس الأله بصيغة المؤنث (إلهة القهر..الحزن.. الخراب../9).. نرجس المخذولة من الاهل وفاضحتهم بعوائها العالي النبرة (هلي يا ظلام/23) نرجس التي ما تذوقت الموازنة القلقة بالتمرد على انساق انظمة الوعي الجمعي(رغم ذلك لم تفّكر نرجس بالهرب للخلاص من الحياة التي فُرضت عليها، أو العصيان والتخلي عن مسؤوليتها/23).. وهي نرجس النقطة تحت باء البيت، والباء صوت انفجاري وبحكم انفجاره هو أوحي ما يكون بمعاني القطع والشق والتحطيم والتبديد والمفاجأة والشدة. /111 إنتاج المكتوب صوتا../ نرجس التي بتوقيت موتها حلّ الخراب فأخذ الناس يسجدون لها وينذرون النذور وهي.. نرجس المستبدة في حزنها،غيرتها، تملكها تفتح الدار بعد وفاة ابي لتصير أشبه بمزار ومحطة للقادمات من محافظات العراق بحثا عن الأولاد والازواج المغيبين في غيابات طامورات البصرة../156.. وهي النرجسة الغريبة/215..ومروى حين تريد الحديث عن مروى، فلا تتحدث إلاّ عن.. (الطفلة مروى ما زالت تسكن في داخلي/ 20) وهناك طفلة مرهوبة في قاع بئر ذاتها..(..طفلة أبدية مرعوبة، قابعة فيّ، تختض رعباً من هذا العالم../27).. (أبقى تلك الطفلة الغريبة تفيض عيني بالدموع لأدنى سبب/ 58).

نرجس
هنا ينبث تراسل مرآوي بين مروى ونرجس، هذا التراسل يخترق لحظة الخراب العراقي الممتد من 8 شباط 1963 حتى ما بعد ربيع 2003 ويستقر في الميثالوجيا العراقي/ فيتم أسطرة الواقع العراقي وترميزه بحكاية طالعة من الليالي الألف سأطلق عليها ليلة التربيع مع كل مافي الرقم (4) من اقفال ومفاتيح طلسمية/ اربع ملل ونحل: نصارى/ مجوس، مسلمون/ يهود.. تمارس امراة عليهم غواية سوداء التعازيم فتصيرّهم اربع اسماك في بركة تحوطها اربعة جبال/ 10/ كقارىء سأرى المرأة هي البركة والبركة هي النقطة..وستقوم مروى برسم لوحة وتطلق عليها ألوان الليلة الرابعة/23
نهلة/ رضا
مروى لا تكتمل فقط بنرجس لذا سنتعرف من خلالها عن نهلة/ رضا وستكتشف مروى : رضا الراقص رقصة الصيادين على مسرح الادارة المحلية في البصرة،.هاهي مروى الرسامة بأصابعها وفرشاتها تنجذب لرضا الذي يرسم لوحته بجسده النشوان الذي يُشيع الشوق المُبكي المكبوت بدواخل عذراوات متهافتات لحضور العرض السنوي لفرقة النشاط المدرسي/ ص11.. ومن خلال مروى نتعرف على نهلة في : الصفحات :17/20/25/ 26/31/ 46/ 56/ 59 ونتعرف على مروى من خلال ملفها عند الطبيبة النفسانية الدنماركية
مروى وهي (تستجوبها) عن رضا(هل كنتما تتحدثان عن ذلك/ 25) تتكشف لنا علاقة رضا ونهلة ويتكشف لي كقارىء منتج للنص الروائي ان مروى انجرحت بجرح نرجسي عميق،بأختصار :مروى انسرقت والسارق كما نقول بعامية اهل البصرة (حرامي بيت) وحسب مروى ذاتها..(يُسرق مني ماعندي ومذ كنت طفلة/ 26) وتضمّد مروى جرحها بيدها فتشرف على تفاصيل زفاف نهلة – 26 -27 وحين يفل منها لجام نفسها تتملص مروى لتتمزخ ربما تفوّخ جرحها وقتيا..(غضبت ُ، تعرقّت ُ وضربت ُ رأسي بغفلة عن نهلة بالحائط/ 27).. مروى لاتتوقف عن انتاج الاسئلة وحراستها من الاجوبة المثلومة..(يحاولون تلقيني دون جدوى. كذب/58) وترى بالاجوبة انشوطة الاسئلة التي تدربنا على فن الوجود وتناول الحياة بما يليق بشعلتها الخضراء الشعرية..(أتساءل أية هوية تجمعنا كلنا؟ السؤال بعد كل تلك السنين يشوبه بعض من مرارة .هل الرعب الذي يمتلكنا له علاقة بالقدر ليتدخل ويقرر مصائرنا؟/58) ومروى هي التي تخبرنا عن مقتل اخت رضا اثناء القصف الإيراني للبصرة في الحرب وفي يوم زفاف نهلة الى رضا وكيف تدبر العروس والعريس أمرهما/58- وكيف ترخت العلاقة بين نهلة/ مروى
نهلة تروي عن مروى
نهلة تنوب عن مروى من خلال لوحة مروى ومروى بدورها رمزّت نفسها في لوحتها سواء اخبرتنا نهلة بتراسل مرآوي بين اللوحة/ والفوتو غراف التي التقطتها للوحة او لم تخبرنا..(الصورة التي التقطتها لها وهي تقف بجانب لوحتها لاتترك مجالا للشك لأحد : فتاة اللوحة ومروى شخص واحد/ 124)..وهنا ارى لو جمعنا لوحات مروى في الرواية لحصلنا على نص تشكيلي لمحنة العراق اثناء الشمولية الممتدة من 8 فبراير 1963 حتى ربيع 2003 والنص التشكيلي/ المرئي يتوازي ويتمازج مع النص المكتوب وسأطلق عليه سردانية الفرشاة..
رضا يتكلم عنه وعن نهلة
رضا لايحتاج إنابة فهو يحتاج تحويل المونولوغ الى ديالوج فلهذا يحدث المحللة النفسانية عنه/73
إجتمعت فيه كل التضادات : شيعي/ شيوعي/ تبعية إيرانية/ راقص في مجتمع لايحترم ذلك ويرتبط بنهلة ذات الأصول اليهودية..من هنا تحصن بالكتب كواقع بديل..صار الكتاب زمنه الخاص ومكانه المفضل.. (الكتب كانت واقعي الوحيد..الأرض وكأنها تموج من تحتي، كان الكتاب هو اللحظة التي لا تحتمل المزح أو الكفر.. اللحظة التي تجعلني انسانا عنوة/ 73) لكن فعل قراءة الكتاب ارتبط مع خزانة الدنيا/البصرة..(لم أقرأ كتابا منذ غادرت البصرة) وسيخبر رضا المحللة ومنها سنعرف ان نهلة حمته من الحرب وجعلته لايشارك فيها واسكنته قلبها وبيتا قديما عائدا لذويها/ 74-75..وهكذا يقع رضا بغواية سوداء يتنازل عن شهامته ودوره كأخ أكبر ويتناسى اخته وعائلتها : ضحايا القصف الإيراني على مدينة البصرة ويتراخي كخرقة بالية بين قدمي نهلةوحسب قوله أو حسب إدعائه.. (أتشبث بها أخشى مثل طفل ٍأن تفلتني/75) أما قوله (أقرر أن انتمي لإمرأة وأتخذ منها سكنا) فهذا الكلام يثير الضحك لدى فطنة القارىء لأن رضا ليس من اصحاب القرار ولا له قوة الانتماء.. رضا جنين لايريد مغادرة الرحم، إلاّ حين تتوفر امرأة تنوب عنه حتى في تغذيته وهذا ماتوهمه في نهلة وهذا سبب اشكالية الحادة بينهما..فالسنوات اوصلت نهلة/ الرحم الى سن اليأس وتليف رحمها وقررت ان تستأصله لتعيش حياتها لها ولها فقط مع بداية جديدة لحياة مدفوع الثمن.
تفعيل ثريا النص
هل الرائحة كائن حي..؟ وإذا كانت…هل تستيقظ لوحدها؟ أم هناك من يوقظها؟ واذا ايقظوها هل ستسلك الجغرافيا؟ ام التاريخ؟ وهل ثمة رائحة تستقدم المستقبل بقوة حدوسها؟ هذه العائلة التساؤلية وغيرها انبجست من ثريا الرواية: (عندما تستيقظ الرائحة)..والثريا تعلن وقت اليقظة ولاتحدده شروط الايقاظ أو التيّقظ وهذه يعني بالنسبة لي كقارىء منتج ان الثريا هنا تحتوي خلية موقوتة سيفككها فعل القراءة للمسطور الروائي،كما ان فعل كتابة الرواية محاولة فنية مرموقة في تخليص الرائحة من ذلك السحر الاسود الذي نوّمها بالقوة والرائحة في الثريا هي مفردة بصيغة الكثرة.. إذن مفردة الرائحة خلية موقوته تفعيلها بالقراءة يوفر لنا روائح تشير الى خرائط : الجسد/ التاريخ/ الجغرافيا
الرائحة/ الهوية
*جو الشقة خانق…لو لم ينطق لظننته دانماركيا لطول قامته، للون بشرته وشعره الطويل الى الخلف.
لكن أنفي التقط أيضاً رائحة جسده التي كانت مختلفة، مؤشرا لجنس وبشرة يختلفان .وكأن الرائحة
تضع بالحال مسافة بيني وبين من أختلط بهم من هذه الفئة.. / 39
نلاحظ هنا ان الشخص تم التعرف عليه مثنويا : اللغة/ الرائحة.. لكن الاقوى هي الرائحة..ربما اللغة الأم يمكن تعليقها في الجغرافيا التي لا تتداولها.. لكن الرائحة هي الرائحة.. راسخة قبل النبي يوسف عليه السلام (إني لأجد ريحَ يوسف../94) وهذا يعني ان الإنسان قد يكون حرضا، لكنه لا يفتقد حاسة الشم .وستتكرر الحالة للمرة الثانية مع المحللة النفسانية.. (تهاجمني رائحته التي ميزتها فيه يوم لقائي به أول مرة/82)..(كانت رائحة كحول قوية تشوب أنفاسه/ 91) هي تشتم ماتراه أمامها أما رضا المولاني فيشتم مرغما تلك اللحظة الدمائية من ماضيه في العراق..(رائحة دم،لحم مشوي وبارود عالقة في أنفي، أشم رائحة جزعي الكريهة فأوشك على التقيوء/91)..ثم تغمره رائحة المحللة النفسانية الدنماركية.. (وددت لو أمسك يدها المتدلية بارتخاء قريبة من يدي، تنبعث ُ منها رائحة حياة لأتشبث بها تُخلصني من أسئلتها وسماع الانين الخانق../ 95)…وسيكون ليد مروى رائحة الامومة المرتجاة..(ابنتي تختار ان تطيل ألمها وألمي بمخاض قاس.. تولد زرقاء بين يدي.. أحياناً تستيقظ رائحتها في يدي/ 212)/وهاهي مروى بين مثلث من الروائح المفتقدة.. (أتشمم رائحة عدنان بملابسي ممزوجة برائحة دم طفلته في لحافي . أفتقد رائحة جسدي الخاصة في فترة ما/ 218)..يختفي الأثر أثرهن وأثرهم وتتحول الاشياء والكلمات فاكهة مجففة (ليتخلف دربٌ طويل من رائحة النيفيا/ 227)..
الشمس/ جسرالرائحة
* الشمس كانت ساطعة، أنتقلت الى الداخل وشغلت مساحة كبيرة من الصالة وأول السلم كما نشر دفؤها
رائحة ابصال الهايسث في البيت بأكمله/ 52
*في السيف (إحدى محلات البصرة القديمة) الله، رائحة الخشب القديم المنقوع بالرطوبة والحديد الصدىء، لا تبارح أنفي،لها موعدها الذي تستيقظ فيه، عندما تلح الشمس/ 62
وفي الدنمارك رائحة الملابس مقياس المسافات الطويلة..لدى نهلة (أمسّد بيدي طويلا قطعة ملابس قديمة . أشمها . أكاد لاأصدق بأنني قد قطعت كل هذه الرحلة بمخاطرها ومجاهيلها الى الدنمارك/ 107) لكن صالة نينا الدنماركية تفوح برائحة آنية يومية لحظوية (الصالة تفوح برائحة الخبز الأسمر الطازج الذي اشترته نينا من المخبز القريب .تأتي بالقهوة التي فاحت رائحتها ايضا وقالب الزبد/ 109)..وتحاول نينا تدريب حاسة الشم لدى نهلة ايضا..(حاولي ان تشمي، رائحة ورد جبلي وفاكهة لينة.. ألا تحسين بنكهة من جوز الطيب../ 123)..وهناك نرجس في البصرة وهي تعد الدولمة وتبذل جهدا عاليا جدا من أجل (صيحات الأعجاب للرائحة النكهة والطعم الاشهى فتلمع عيناها زهوا وحبا وتشبع بتمتعنا/ 165)..وهناك من يستخدم الرائحة للتخلص من الآخر كما تفعل نهلة حين ينفردان زوجها رضا ومروى في حوار تشكيلي..(رحبت بي وانهمكت بالقيام بمتطلبات البيت كي يتسنى لنا الجلوس والدردشة بعد ذلك رائحة المنظفات والمطهرات تخنقني. خشيت ان تسوء حالتي أكثر فأثقل على من في البيت فهربت/171)وأخو مروى..(لايحتمل رائحة الأصباغ والتدخين في الغرفة/ 210)
استنشاق خاص
* دبت الحياة بجسمي، هكذا هي الطبيعة، علاجنا الوحيد .توقفت أتأمل الاشجار العارية، شممت رائحة حطب المداخن../53
*ينقبض صدري لإستنشاق رائحة حطب الطهي في الازقة الضيقة/81
الفرق بين الحطبين هو في الاستعمال، الرائحة الاولى تشير الى استقرار عائلي وحطب الطهي يشير الى فناء الرجال في الحرب فالطهي هنا مكرس لمجالس الفاتحة
*غريبة تلك الرائحة التي تعلق بالمخادع الزوجية التقليدية، غرف مؤسسة لتكون محطات أخيرة للنساء . غريبة تلك الستائر المسدلة التي تحفظ عطر زيوت أثيرية في ثناياها وبخورا في شرائطها، وكأنها تخشى ان تسرّب بعضا من أسرار مخادعها. رائحة لا يمكن فرز مكوناتها، فيها عطر رخيص لكنه منعش فيها قدم وعتق لكنه دافىء نوستالجي. فيها رائحة جنس داعر مغلف بالخفر والعيب . أفتقد الرائحة وليس لغرفة نوم بعد ذلك التاريخ سأدخلها وستحمل ذات الخصوصية والغموض/ 64
هنا يكون القارىء مع متواليات متشابكة من الرائحة :
غرابة الرائحة + غرابة الستائر + عطر زيوت + بخور+ روائح متشابكة كضفيرة —— رائحة لايمكن فرز مكوناتها ——–عطر رخيص —- منعش + قدم + عتق + دفء + رائحة جنس مغلّف
لكن هذه التوصيفات المحفورة في خشب الذاكرة التذاكرية لمروى هي متلاشية من الوجود ومتأرجة من ذاكرة مروى وهي تستعيدها سردا ولن تستنشقها ثاتية بطبعتها الأولى..
*يتسلق رائحتي ويصعد إليّ على مهل/66
الرائحة هنا لها ذات توظيف بلاغي عالي الجودة ويضخ براهين العسل
*فأشم عرق جسد إمرأة مشوبا بعطر خفيف يملأ رئتي فأكاد أطير/ 72: تصعيد آيروسي..
*تشم رائحة الخطر في الكراريس الممنوعة/ 74.. هنا المجاز ينطلق من حدس الام
ألاحظ من خلال فهرستي لمفردة رائحة.. . ان الرائحة بمثابة مصباح يدوي أحمله فيضيء لي الفضاء الروائي،ثم يتحول المصباح الى مفل يفكك النص الى منظومة مكونات ويعينني في صياغة قراءتي المنتجة هذه..

1دنى غالي/ عندما تستيقظ الرائحة/ دار المدى/ ط1/ 2006

مجلة نزوى

مقداد مسعود /شاعر وناقد عراقي