الخروجُ مِنْ مدائنِ القيامة

picasso-guernica2

 

الآنَ مُصطحبًا التعبَ الثقيلَ الظلِّ

أحدِّقُ بعينينِ مُخلخلتينِ جاحظتينِ إلى الهواءِ

المدجّجِ بالرصاصِ المنفلتِ في سُعارهِ

والمُطرّزِ بالراياتِ المصنوعةِ مِنْ حِبالِ المشانقِ المترصدة 

 إلى حدِّ الاختناق بدخانٍ شيطانيٍّ ينبعثُ مِنْ  أفواهِ خيوطِها

منذُ بدايةِ الكونِ المترجرجِ حتَّى بدايةِ الهشيمِ المتأصلِ

 

أنظرُ الآنَ مَفزوعًا كوعلٍ يتيهُ بينَ جبالٍ تحترقُ

أنظرُ مُرتعدًا، إلى لحظاتِ حياتنا التي ترتعدُ فرائصُها

داخلَ هذه الخرسانة المتعفنة المسماة بِلادًا،

إلى شريطنا الدنيويِّ المُبعثرِ أفاعيَ مِنْ نارٍ،

إلى قلوبنا التي يلعقُها التبلُّدُ اللاموصوفُ.

أنظرُ بعينينِ مصبوبتينِ مِنْ زئبقِ الشكِّ،

إلى أبراجِ الأرضِ التي تلتحفُ ملاءةَ السماء  

إلى عذوقِ النخيلِ الضامرةِ كأثداءِ عجوزٍ

أنظرُ بعينٍ ثالثةٍ تتلوّى جوعًا لالتهامِ ألفِ تفاحةٍ

في حينِ أنه ليسَ بينَ يديها الآن سِوى

آلافِ الجماجمِ التي في تجاويفها تنشجُ الريحُ.

هنالكَ، هنا، أستعيذُ بسَكِينةِ القصائدِ وطهارتها

مِنْ شرائرِ الكلامِ المستديرِ على انحناءاته كمطواةٍ هائلة

أنظرُ بقلبيَ الذي لا يخطيءُ

وأشعرُ أنَّي أشهقُ وشرايينيَ تقشعرُّ

وأرى بيوتًاوحدائقَ وسلالاتٍ وشعوبًا ومدنًا تغرقُ

 وتغوصُ ببطءٍ في محيطٍ مِنَ الخناجرِ

أشعرُ الآنَ أنّي أقلُّ مِنْ قدمَيْ نملةٍ

وأقلُّ مِنْ شاهدِ قبرٍ تكللهُ وردةٌ

أُغمضُ عَينيْ قصيدتي كي ترى الليلَ أوضحَ

وأُغمضُ وجهي كلَّهُ، جسدي كلَّهُ

كي يدخلا إلى الهاويةِ السحيقةِ الجروحِ بشكلٍ أوضحَ

وأنصعَ مما هي مِنْ ذي قبلٍ،

كطفلٍ يعقدُ حاجبيه ويُغلقُ جفنيهِ بقوةٍ

ويدخلُ في دورةِ البكاء.

أنظرُ وأحدّقُ مليًّا بأصابعي العشرين

أحدّقُ بجميعِ أعضائي، فلا أرى أحدًا

ويهربُ منّي وجهي، تهربُ جميعُ قصائدي

وتسافرُ في قطارِ المجهولِ في كوكبٍ آخرَ.

تنصرفُ لغتي وتحارُ:

مَنْ يا تُرى يقولُ ما أرى؟

مَنْ يفتحُ حنجرتهُ كيْ أصرخَ مِنْ خلالهِ؟

مَنْ يملأُ هذا الفراغَ المتفسخَ

كبرتقالةٍ يأكلُ أحشاءَها الدودُ؟

تحاصرُني بلدي وأحاصرُها

كأنني جنديٌّ يفرُّ مِنْ قاتليهِ ويتحاشى أنْ يقتلَهم

وأحارُ:كيفَ تُراني أتخلّصُ مِنْ حمولةِ الوقتِ المُعرَّى؟

وتزعقُ نوافذُ جسدي:

يا للدخانِ المُنفلتِ في دهاليز المدينةِ وفي ساحاتها!

 

 

وأتخيلُ أنني شَبحٌ تائهٌ، يهذي:

رائحةُ المسالخِ لها شهيقٌ وزفيرٌ، يكادُ يُصِمُّ آذانَ الأفقِ

أجسادٌ مُرقطةٌ تتقلبُ جامدةً في تجاعيدِ الشوارعِ

أجسادٌ غامقةٌ كالطحالبِ تنامُ مُمزقةً على صناديقِ القمامة

وفي جحيمِ الأرصفةِ الميّتة

أجسامٌ خائفةٌ لنساءٍ تحتَ عباءاتهنَّ

والصورةُ نفسُها ترتعشُ وتنتحبُ مِنْ نفسِها

أجسامٌ نائمةٌ لأمهاتٍ يعانقنَ أطفالهنَّ في نشوةٍ

وأخرى لأمٍّ تفتحُ ذراعيها لاستقبالِ اللُهاثِ الأخير

أجسامٌ آدميةٌ مُخرَّقةٌ كأصدافٍ يُبقّعها صَهَدُ الشمسِ

إنها الوديانُ تفوحُ منها رائحةُ العُواءِ الآدميِّ

إنها الدروبُ مخنوقةٌ،

ومنسوجةٌ مِنْ خيوطٍ لامرئيّةٍ لجثثٍ آدمية

والصورةُ نفسُها ترتعشُ وتنتحبُ مِنْ نفسِها

 

 

 

أتخيّلُ أنني شبحٌ تائهٌ، لهُ أرجلٌ خفيفةٌ:

حططتُ على الرملِ المكسوِّ بدثارٍ مِنْ دَمٍ

فانتشرَ ملحُ الارتباكِ على ملامحي

وتكلّحَ ظلِّيَ في حيرةٍ وتقلّصَ صامتًا

حططتُ على جُثةٍ غامضةٍ

انخطفَ بصري وارتجفتُ كقطةٍ يباغتها حجرٌ

وكانَ الماءُ سوادًا يتلألأُ مثلَ أجنحةٍ غُرابيةِ اللونِ

كانَ الماءُ اليابسُ يغسِّلُ النهارَ الدائخَ

ويعجنُ أوجاعَهُ بقليلٍ مِنَ الحُداءِ المجازيِّ

وكانتْ جوارحي تغورُ وتتقهقرُ مرعوبةً

وسرعانَ ما تقلصّتْ شفتايَ

وأخذتا ترسمانِ تمتمةً ملساءَ وهذيانًا يغلي.

 

 

 

نظرتُ إلى سحابةٍ سوداءَ متهرّئةٍ، تتناسلُ   

وتذكرتُ أنْ أقولَ:

امطري حيثُ شئتِ، فسوفَ يأتيني خَرابُكِ.

أتأملُ هذهِ الأرضَ،

 التي تتقوّسُ على شكلٍ زورقٍ يَصغرُ

أتأملُ التخومَ المتراميةَ،

التي تتحوّلُ ثقوبًا سوداءَ شيئًا فشيئًا…

يا تُرى، ما الذي سيظلُّ هنا وهناكَ،

إلاَّ الأنهارُ المجرثمةُ بالضجرِ الصامت؟!

فنهرُ بردى يكادُ أنْ ينطفىءَ مثلَ كوكبٍ شائخٍ

لكنه إذْ يهذي،

يصرخُ مُنتفضًا، ويدندنُ أغنيةً حزينةً لفيروزَ، 

على وقعِ وخزِ البعوضِ الذي يتراقصُ حولَهُ.

… في ساعةِ الظهيرةِ إلى منتصفِ الليلِ،

وفي الصباحِ البنفسجيِّ،

الأكثرِ سذاجةً، المحشوِّ بغصَّاتٍ غيرِ مسموعةٍ،

إذ يتدفقُ بردى هازئًا مِنْ أبنائهِ ومِنْ نفسهِ…

أقفُ على مائهِ الموحلِ كمجنونٍ تَمْتامٍ،

ساعةَ الفيضان؛

أغتسلُ في طينهِ الضجيجيِّ

 كأيِّ شبحٍ يخلعُ هندامَهُ ويغطسُ تحتَ الريح

ثمة أجسامٌ تتأرجحُ وتتوهجُ بينَ الفينة والأخرى

لعلها ملائكةٌ قديمةٌ مُغبرةٌ تسكنُ الماءَ

أو ربَّما رجالٌ مِنَ الجنِّ تلبسُ أجسادَ آلهةٍ ناقصة.

بردى يستحمُّ في نفسهِ

ويلعنُ فجاجةَ الوقتِ، لحظةَ يغيبُ في أشجارِ الغوطتينِ؛

حيثُ الحرابُ الناريةُ تشوي اللحمَ الطريَّ

وتؤرجحُ الزمانَ وتخدِّدُهُ، كوجهِ سيدةٍ يُنقرِّهُ الحَفْرُ.

هنا، وهناكَ، حيثُ المساءُ مَرَقٌ بائتٌ

تشربهُ على مضضٍ معدةُ الليلِ

وحيثُ يركضُ شلّالُ الرؤوسِ، المتدحرجةِ على إيقاعاتِ الزهوِ،

يتجرجرُ شلّالُ الرؤوسِ، ويجرجرُ هشيمَه كلَّهُ وسؤالَه المسكوبَ:

( أينَ جبينُ اللهِ وقلبهُ؟ وأينَ عيناهُ تضحكانِ كلؤلؤتينِ لامعتينِ؟).

أنظرُ إلى المرافىءِ مُتْرعةً بالضبابِ الأحمر،

وإلى جلجامشَ يشكو،ويُهرِّجُ:

دجلةُ والفراتُ توأمانِ إلهيانِ،

سيحملاني في مراكبِ القيثاراتِ إلى مُستحيلِ الحكاية

سيُدخلاني في نجومٍ بيضاءَ، بقليلٍ مِنَ الطفولة،

إلى بيلسانِ الرقصِ المدهوكِ بالعزاءِ الأبديِّ.

 وسأنصتُ للفراتينِ يُغنِّي في حنجرة مَكسورةٍ :

ربيتك صغيرون  حسن  ليش انكرتني   

بعيونك الوسعات حسن/  مُوزَرْ صِبتْني…

 

أشقُّ طريقَ الجُرحِ المرسوم خطوطًا جحيميةً

بلونٍ مُبقَّعٍ وكثافةٍ لانهائيةٍ

وخيالٍ يكادُ أنْ يزوغَ ويتقيأَ ما في خيالهِ؛

مِنْ سرياليةِ ما يرى على مقربةٍ مِنْ يديهِ…

 

افصحي، أيتها المسافةُ المتغلغلةُ في هذا العراء

أيتها الرمالُ التي تتلوَّى جُوعًا،

فوقَ خزَّانٍ مِنَ الجواري والعبيدِ،

مِنَ النفطِ والثعالبِ والعقاربِ والعظايا..  

افصحي، أيتها الصحارى المُجوَّعة،

كحيواناتٍ بريّةٍ ضامرةِ البطنِ.

يا صحراءَ الأنبارِ،

يا صحراءَ السماوةِ! هل أغويتِ لسانَ المتنبي لسنتين،

 فظلَّ يرضعُ أثداءَكِ الفصيحةَ لسنتينِ كاملتين؟

خذي قصائدَهُ كلَّها تميمةً لحناجرِ حبّاتِ الرمل المتناثرة

واغسلي،بمزيدٍ مِنَ المهارةِ والحَذْقِ، بَداوَتكِ المتسخةِ توًّا

ومرِّغي جسدكِ قُدّامَ هذهِ النهاراتِ المتفارطةِ في الذبحِ

 

أيتها الصحارى التي تُحنِّكُ جُغرافيا العربِ وتاريخَهم

كدابةٍ تنغرزُ في فمِها الأرسانُ.

يا صحراءَ الربعِ الخالي الأكثرَ وحشيةً مِنْ نيزكٍ عتيقٍ

أتخيّل أنني شبحٌ عربيٌّ، أسافرُ في مزيجكِ

وأسترسلُ في أمعاءِ بكائكِ الجافّ…

هذهِ الكثبانُ الدبقةُ التي تصعدُ وتهبطُ بسهولةِ الريحِ

أيادٍ هُلاميةٌ لامتناهيةُ الهذيانِ.

 ظلاليَ الشاحبةُ لفرطِ الانذهال،

تخطفها التضاريسُ الأكثرُ رشاقةً مِنَ الحياةِ نفسِها

وأتأملُ أعينَ المها، الأجملَ مِنْ بحيرةِ طفولةٍ، والأصفى مِنْ فجرٍ يسيلُ في هاويةِ السماء…

أتقرَّى أعينَ المها،وأُقبِّلُها مُنغمرًا بشجوِها الغريبِ.

أُقبِّلُها بحبٍّ عميقٍ، وأدخلُ في كُحلِها العذْبِ، وأسمعُهُ يبتهجُ كالحياءِ الذي يتدفقُ في الأهدابِ.

أرى وأسمعُ ذُعرَ أعينِها الجارفَ،

وأسئلةً تهبُّ، وواحاتٍ تنتفخُ وتُشرقُ، كصوتٍ بعيد…

 

 

 

 

أرى أسئلةً تتكدسُ، وتسوّدُ في عذابها:

تعساً لهذه البنادقِ الأكثرِ عُهرًا مِنْ فرجِ قحبةٍ مُحترفة!

إنها تُطفىءُ عينيَّ وتغتالُ كحلهما…

أرأيتَ كيفَ يُقنصُ جسديَ المكسوُّ بطراوةِ ضوءِ الشمس؟

أرأيتَ كيفَ يُباعُ لحمي، أو يُشوى؟

 

أيتها الغزالاتُ التي تتسكعُ في فراغٍ بلونِ الموتِ القرمزيِّ،

بلونِ السراطينِ المبقعةِ،

الزاحفةِ على سقفِ غرفةٍ قديمة…

اغرقيني عاريًا في غمرةٍ مجنونةٍ لنظراتكِ الغزيرةِ التي تتثاءبُ.

ارفعي رأسَكِ المتلهّفَ أمام عزلةِ الظلامِ،

املئي سُرةَ الشبقِ بنبيذِ الأعماق…

يا لهذه الأزهارِ والورودِ المُثقلةِ برائحةٍ نفّاذةٍ لصحراء مُعتّقة!

إنها هناكَ متشكلةٌ وماثلة:

 أرجلُ المها سيقانُها المُعجزةُ لأيِّ ساحرٍ

واللابسةُ تنانيرَ سوداءَ طويلة

وأجسادُها الأوراقُ ذواتُ الآباطِ اللزجة

تنضحُ في بياضِها عاريةً كزُجاجٍ أنثويّ

وذيلُها بتلاتٌ تتأرجحُ/شَعَرُ بدويةٍ يضطربُ صاخبًا على كتفيها.

والعنُقُ ميسمٌ ممدودٌ

… يُندّيهِ احمرارُ موجِ الليل، ويجفّفُ جلدَهُ صمتُ الهواء الطويل.

والقرونُ صَوارٍ لمراكبَ تُبحرُ قربَ عاصفةٍ نزقةٍ،

قريباً مِنْ تخومِ آلهةٍ عملاقة.

 

أيتها الغزالاتُ المَجيدة! أيتها الأوثانُ الجديرةُ بمعبدِ الحياة.

… اشفعي لي، واغفري لي كلَّ خطيئةٍ،

اشفعي لقلبي النابتِ وحيدًا كشجيرةِ عرفجٍ

ومُنِّي عليَّ كما يمنُّ ميناءٌ على رُسوِّ فراشةٍ

كما يمنُّ صيفٌ على غريبٍ سكران.

أتشهَّى حكاياتكِ المبتهجةَ حكايةً حكايةً

وأتشهَّى لونَكِ الغامضَ، الناصعَ النفحاتِ،

 

وأقذفُ بنفسي فيكِ،

كمحرومٍ يشحذُ الحُبَّ الزائفَ على أبوابِ المواخير…

أقذفُ بنفسي على أبوابِ جحيمٍ حامٍ

أنا الشبحُ الحوّامُ، حيثُ تكونُ الأرضُ ألفُ أرضٍ

لكنها كلُّها بحجمِ قبضةِ ريحٍ،

وحيثُ أقذفُ بنفسي في هاويةٍ تجريبيةٍ

قبلَ أنْ أُقذفَ في الهاويةِ الماثلةِ كفوّهةٍ لبئرٍ قديمٍ،

كباطنِ روحيَ الأكثرِ صخبًا مِنْ إغماءةِ نهدين.

أقذف بنفسي …

وتلك ليستْ سوى بدايةُ الصحو

إنني حقّاً أسكنُ الآنَ هذهِ البدايةَ

هذا الصمتَ، هذا الفضاءَ الذي له مذاقُ الأحضانِ الدافئة

هذا الماءَ الذي أشربُ في زُلالهِ شفتيْ حبيبةٍ سابقة

وأشمُّ صورةَ بَوْسِها واضحةً جدًّا

مُغزوةً بسكّرِ اللحظةِ، مسكونةً بنجومٍ دونَ سماءٍ،

إنها هناكَ وهنا، تتذكرُ نفسَها مِنْ جديدٍ،

وتخلقُ نفسَها مِنْ جديدٍ، إنها هنا وهناكَ…

 

إنني حقًّا أسكنُ الآنَ طيورَ هذهِ البداية

فأُحلِّقُ في غضونِ لمحةٍ إلى بغدادَ

حيثُ القائمُ بأمرِ الله ما يزالُ يدافعُ عن فَخِذَيْ عذراء

أمامَ هجوم سلاطينِ السلاجقةِ الهائجين

و حيثُ حشودُ العامة أمواجًا أمواجًا تحتربُ في بعضها

 فقط مِنْ أجل عبارةٍ  كُتبتْ على بابٍ في الكرخ(*)

(ابن الاثیر في “الکامل في التاریخ” يذكرُ ما حصل سنة 443للهجرة : “في هذه السنة في صفر تجدّدت الفتنة ببغداد بين السنّة والشيعة وعظمت أضعاف ما كانت قديماً، فكان الاتفاق الذي ذكرناه في السنة الماضية غير مأمون الانتقاض لما في الصدور من الإحن، وكان سبب هذه الفتنة أن أهل الكرخ شرعوا في عمل باب السمّاكين، وأهل القلاّئين في عمل ما بقي من باب مسعود، ففرغ أهل الكرخ، وعملوا أبراجاً كتبوا عليها بالذهب: ” محمّد وعليّ خير البشر ” ; وأنكر السنيّة ذلك وادّعوا أنّ المكتوب: ” محمّد وعليّ خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر ” ; وأنكر أهلُ الكرخ الزيادةَ وقالوا: ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا فيما نكتبه على مساجدنا، فأرسل الخليفة القائم بأمر الله أبا تمّام نقيب العبّاسيّين، ونقيب العلويّين وهو عدنان بن الرضي، لكشف الحال وإنهائه، فكتبا بتصديق قول الكرخيّين، فأمر حينئذ الخليفة ونوّاب الرحيم بكفّ القتال، فلم يقبلوا. وانتدب ابن المذهب القاضي، والزهيريّ، وغيرهما من الحنابلة أصحاب عبدالصمد بحمل العامّة على الإغراق في الفتنة، فأمسك نوّابُ الملك الرحيم عن كفّهم غيظاً من رئيس الرؤساء لميله إلى الحنابلة، ومنع هؤلاء السُّنّة من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ، وكان نهر عيسى قد انفتح بثقُهُ، فعظم الأمر عليهم، وانتدب جماعة منهم وقصدوا دجلة وحملوا الماء وجعلوه في الظروف، وصبّوا عليه ماء الورد، ونادوا: الماء للسبيل ; فأغروا بهم السُّنّة…ألخ” الجزء8،ص59-60.)

إنني أخلعُ الآنَ نفسي وأبسطُها أسْطُرلاباً وسطَ بغدادَ

الليلُ موحشٌ ومظلمٌ كعادتهِ

لكنَّ الرماحَ الأزيزيةَ هذهِ المرةَ تضحكُ

والنجوم لها مِزاجٌ رائقٌ كمِزاجِ شايٍ عراقيٍّ

والجنود حوالي المدينةِ ومِنْ بعدها

ترتِّلُ الشعرَ الحماسيَّ وتصبُّهُ في طاحونةِ العزاء

وترقصُ واثقةً ومزهوةً قُدّامَ هذهِ الصحراء

قُدّامَ هذه الخرائبِ المليئةِ بالعفاريتِ

الممسوحةِ كأحواضٍ كدِرَةٍ  بغبارِ القبور.

والمدينةُ غامقةٌ وحمراءُ جدًّا

ولزجةٌ إلى حدِّ أنها تضطرمُ مِنَ الحقدِ.

أجلسُ في الظلِّ، لكنَّ الظهيرةَ ذات حضورٍ قويٍّ

وذات انبلاجٍ أكثرَ علوّاً مِنَ الليلِ نفسهِ

والمدينةُ غامقةٌ وحمراءُ جدًّا

ومُتعرقةٌ كزنجيٍّ يحاربُ جيشًا أبيضَ

وخيولٌ أسطوريةٌ تحومُ فوقَها بينَ الحينِ والآخر

خيولٌ أشدُّ شراسةً مما هي عليه في ألفِ ليلةٍ وليلة

 وأرى إلى الأنحاءِ تتوهجُ

وإلى الأرضِ تهتزُّ، لوقتٍ قصيرٍ، بينَ الفينةِ والأخرى

بينما ترتبكُ السماءُ في استقبال الزائرين

الآتينَ على شكل قوافل ضخمةٍ لا يُحصى عددُ خيامِها

وتحتارُ كيفَ تُصنّفهم وتُحصيهم

وهُمْ كالأساريعِ لا ينتهونَ: أينَ يستوي ذاك ؟

وأينَ سينزلُ هذا؟ وأنّى لهذهِ الأخلاطِ أنْ تتبينَ؟  

أهذا فقيرٌ ومُعدمٌ ومعتوهٌ؟

أذاكَ موسرٌ وعاقلٌ وذكيٌّ؟

أشريرٌ وبائسٌ إلى هذا الحدّ، ذلكَ الشخصُ القابعُ في زاوية المكان؟

أبريءٌ إلى هذا الحدّ؟…

ثمةَ ملائكةٌ منهوكةُ القوى ومُزغْلَلَةُ الأعينِ

تبحثُ،ككلابٍ ذهبيةٍ،

في ربائدِ الأحياءِ والموتى، ربيدةً ربيدةً

وتتعاركُ مع بعضها البعضِ مِنْ شدّةِ الإعياءِ والتلبُّك.

أهذا هو الرجلُ الذي صدعَ برسالتهِ، في أقصى زاوية الكون؟

ومَنْ هؤلاءِ إذنْ؟

أهمْ أنفسُهمْ الرجالُ الذين ينحدونَ مِنْ شجرةٍ واحدة،

ذات نسغٍ واحد؟

لماذا أراهمْ يلسعُ بعضُهم البعضَ الآخرَ،

كعقاربِ الريحِ، المتأهبةِ أبدًا للانقضاضِ، بفكوكها الهائلة.

 

 

أجلسُ هكذا مُتشبثًا برأسي تمامًا

لئلا أشكَّ، ذات لحظةٍ، على أنهُ يتأرجحُ على كتفيَّ

وأعدُّ النجومَ الساطعةَ في ليلِ بغداد

واحدة، اثنتين، ثلاثين، مئتين… هكذا إلى ما لانهاية…

وأشاهدُ القصيدةَ تلعبُ على ظهرِ حصانٍ خشبيّ

ولحمُ ثدييها يكادُ أنْ ينفجرَ.

 

 

 

والمدينةُ مرقّطةٌ وحمراءُ جدًّا

… والجدرانُ الرماديةُ عوانسُ مكبوتةٌ

تختبىءُ تحتَ أفخاذِها الضخمةِ رائحةُ اللذةِ الميّتةِ

بينما تنتشرُ، في أرصفةِ الصباح، على شكل خبزٍ ساخنٍ…

 

 أينَ أنتِ يا بلاديَ التي لستُ أعرفها؟…

أحاولُ أنْ أتسللَ كزنبورٍ خلالَ ثقوبِ الأقنعةِ المتكومةِ فوقَ جلدِ وجهكِ، لكنْ دونَ جدوى.

أحاولُ أنْ أتوقفَ عنْ صقلِ كراهيتكِ، لكنْ دونَ جدوى.

ملايينُ الأعناقِ تحملُ مشانقَها مثلَ هوادجَ.

 

 

أينَ أنتِ يا بلاديَ التي لستِ مِنيِّ، ولستُ منها؟

اجدلي نسيجَ الطفولاتِ بالبحر؛ كيْ أُصدِّقَ أنَّ النهارَ ما يزالُ مُبتلًّا،

وأنهُ مايزالُ يتعطرُ بأعشابِ النساءِ الجميلاتِ.. .   

 

العرَّافونَ يَقرءُونَ الطوالعَ، يحسبونَ أنها لهم وهي عليهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

… واسقيْ جسدي نبيذًا بُرتقاليًّا؛ حتَّى أنغمرَ  بالصحوِ أكثرَ؛

وحتَّى لا أفوّتَ فرصةَ مضاجعةِ الكثيرِ مِنَ السفنِ والأقمارِ الشبقية…

 

 

 

 

 

 

 

 

 

… واتركيني أرشُّ سوائلَ الحُبِّ مثلَ ماءِ وردٍ 

على أهدابِ الدروبِ الحلزونية التي حتمًا ستُدخلني، آنذاكَ،

عاجلاً أمْ آجلاً،

 إلى يديكِ الوديعتينِ ، وإلى ثدييكِ الزغبينِ اللذَيْنِ سأراهَما يتقافزانِ في فتنةٍ كسِنجابينِ بارعين… 

 

وها أنا أخلعُ جسدي ورأسي أيضًا، وأرميهِما في سلةِ الغيمِ…

وأبدِّلُهما بأجسادٍ ورؤوسٍ متناوبةٍ؛ لأحرّرَ شرنقةَ الأحلام مِنْ نفسِها؛ ومِنْ أجلِ أنْ أتهجَّى أبجديةَ الأكتافِ بشكلٍ أكثرَ لياقةً.    

 العرَّافونَ الكهنةُ يُعدّونَ الطوالعَ:

”إنَّ أَعلامَ الموتِ مُشرعةٌ في السماءِ،إذًا…“

سنن ابن ماجة، رقم الحديث 4084:

(…ثمَّ تطلعُ الراياتُ السودُ مِنْ قِبَلِ المشرقِ فيقتلونكم قتلاً لمْ يُقتَلْهُ قومٌ…)

تأتي الجلبةُ ذاتُ الوجهِ الكريهِ، مِنْ ناحيةٍ لا تُعرف…

في ركنٍ قصيٍّ يتساءَلُ رهطٌ:

”كيفَ ذلك؟ أنبئونا، ما الذي سيجري ؟“

يقولُ جماعةٌ، أفواهُهم تتمضمضُ بقطعٍ خشبٍ مَنَ شجرِ الأراك:

 ”الرجلُ الأحمرُ، كأنَّ عينَهُ عِنَبَةٌ طافية. إنه هو…“

صحيحُ مسلم،  رقم الحديث 255

بابُ المسيحُ بن مريم والمسيحُ الدجّال:

﴿ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبِطُ الشَّعْرِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً، أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً، قُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ، جَسِيمٌ جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ الْعَيْنِ، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الدَّجَّالُ أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ(

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يجيءُأشياعٌ يتلفعونَ أكمامًاواسعةً،مُعتمرينَ عمائمَ مُختلفًا ألوانُها،ينتظرونَ أنْ تفتحَ القيامةُ أبوابَها المشحونةَ بالتآويل… يصيحُ أحدُهم:

” أرى ملامحَ الغيبِ أوضحَ… سيأتي السفيانيُّ، ثُمَّ يحاربه الخراسانيُّ..

واليمانيُّ سينضو مِنْ قاعِ هاويتهِ سيفًا، فلا يغمدهُ إلا وقدْ ظهرَ…“ 

 

في مخطوطة ابن حماد ص 82 :

( وتُقبل خيلُ السفياني كالليلِ والسيلِ فلا تمرّ بشيءٍ إلا أهلكتْه وهدمتْه، حتى يدخلونَ الكوفة…ألخ)

 

 

 

 

 

 

مختصرُ إثبات الرجعة، ج15 ص 215:

(استعيذوا بالله من شرِّ السفيانيّ والدجال…. وخروج اليمانيّ مِنَ اليمنِ مع الرايات البيض في يوم واحدٍ وشهر واحدٍ وسنة واحدة (

 

يحتجُّ نقباءُ الطوائفِ الآخرون، يرسمونَ خريطةً جديدةً لنهاية النُظُمِ واختبالِ العالم:

”تقفُ أورشليمُ على رجليها، وتحتضنُ ذاكَ الذي كانَ مكتوبًا على شفاهِ إبراهيم ونسلِه، حيثُ يجيءُ هو…“

 

سِفْرُ التكوين، أصحاح22، آية 17-18:

 (…أُبَارِكُكَ مُبَارَكَةً، وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ تَكْثِيرًا كَنُجُومِ السَّمَاءِ وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، وَيَرِثُ نَسْلُكَ بَابَ أَعْدَائِهِ، وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِي…)

 

سِفْرُ دانيال، أصحاح9، آية 24-25:

(…سَبْعُونَ أُسْبُوعًا قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ الْمُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الْخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ، وَلِيُؤْتَى بِالْبِرِّ الأَبَدِيِّ، وَلِخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوَّةِ، وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ الْقُدُّوسِينَ. فَاعْلَمْ وَافْهَمْ أَنَّهُ مِنْ خُرُوجِ الأَمْرِ لِتَجْدِيدِ أُورُشَلِيمَ وَبِنَائِهَا إِلَى الْمَسِيحِ الرَّئِيسِ سَبْعَةُ أَسَابِيعَ وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ أُسْبُوعًا، يَعُودُ وَيُبْنَى سُوقٌ وَخَلِيجٌ فِي ضِيقِ الأَزْمِنَةِ...)

 

 

يصيحُ ملاكٌ نحيلٌ يلبسُ حقيقتَه كجوشنٍ حديديٍّ:

… هكذا في صفحاتِهم المغبرّة

يؤسسون ممالكَ غيبيةً مِنْ آجرِّ الدموعِ والفجائع.

وها هي ذي الأسماءُ ذاتُ الأحرفِ التي تفوحُ بمدافنَ غيرِ مرئيةٍ،

تُشهرُ شفراتِ سيوفِها على المدائنِ كلِّها.

أراها بوضوحٍ، وبأبعادٍ مُكبَّرةٍ،

كفتًى مجنونٍ تحتَ تأثيرِ متحفٍ مِنَ القُنَّبِ

أرى بدونِ عينين

وبدونِ رئتينِ، وبدونِ رأسٍ

أرى تلكَ الحروفَ المُهجرّةَ مِنْ مَواضيها

تستنطقُها شفاهُ الأبراجِ اللصيقةُ بالمسخِ الوحشِ المُكرَّسِ   

والمُكرِّسِ كلَّ شيءٍ أنْ يسجدَ لرغبوتِه الشرّير

أنْ يلحسَ قضيبَ كبريائهِ السيكوباتيَّ…

 

 

 

هكذا أُجابِهُ رؤيتيَ الحقيقيةَ النسجِ

وأتحدثُ معَ كلِّ جمادٍ ومع َكلِّ نفسٍ،

 أتحدثُ معها كلّها شخصًا شخصًا

على انفرادٍ:

أشعلوا حروبًا عُظمى معَ دواخلكم

أشعلوها في جُرودِ أنفسكم،

إنْ أردتمْ أنْ يحلَّ على جسدِ خارجِكم وعلى جلدهِ الخشنِ،

السلامُ المُغذَّى بتمرٍ ناضجٍ؛ السلامُ الرشيقُ كأرجلِ نعّامةٍ أفريقيّة…

 

 

ها أنا، على حينِ غرةٍ، أدخلُ في ملايينِ الصورِ

المتشابكةِ، المتدحرجةِ الألوانِ، ذاتِ الملمسِ العميقِ 

الأشدِّ عُريًا مِنْ مشيمةٍ تخضرُّ وتزدهرُ

 وكأني أشاهدُ سلالاتِ آدمَ وامرأته حوّاءَ للمرة الأولى

 كأنيِّ لأولِ مرةٍ أشاهدُ قايينَ يطعنُ أخاهُ

ويجعلُ دمهَ يصرخُ…

في الصورِ غيرِ المألوفةِ أدخلُ

وتدخلُ معي شمسٌ تغتسلُ في بُحيرةِ خمرٍ رماديةٍ وصافية

ثمةَ غيوبٌ تتعرّى أمامي،

تتشقلبُ كثمراتٍ خفيفةِ الوزنِ

كفوضى خيامٍ في أقاليمِ الأبديةِ ذاتِ اللونِ الكبريتيِّ

غيوبٌ

تنزعُ أثوابَها الاحتفاليةَ وتتعرَّى بكاملها

 

… خروفٌ هائلٌ يُسمَّنُ للذبحِ

وحولهُ سكاكينُ تُسَنُّ نصالُها الذهبيةُ

تحتَ محابرَ وطباشيرَ مغمورةٍ برائحةٍ قويّة.

يجيءُ صوتٌ خافتٌ:

“حدِّقْ جيّدًا إلى حِدّة هذه الرائحة،

لعلّك تعرفُ هذه الرائحةَ مِنْ قبلُ!”

أنتَ، تُطلقُ رِعْدةً عنيفةً:

“كلَّا، أبدًا لا أعرفُ…لا أقدرُ حتّى على بلعِها!…”

 

وفجأةً، أغيبُ وسطَ غيومٍ كثيفةٍ

تُمطرُ حليبًا أحمرَ

                    لها إيقاعاتٌ خاليةٌ مِنَ العَظَمةِ والمجد

وآخرونَ يرتّلونَ أناشيدَها العديمةَ المعنى.

في الساحاتِ المفتوحةِ

على الهواءِ الطلقِ المُثقلِ بالغيومِ ذاتِ الغمقانِ

العالمُ مِنْ جميع الجهاتِ يتكركبُ

وأشياؤهُ تُمعنُ، بمزيدٍ من الهياجِ الذكوريِّ،

تُمعنُ في تشقيصِ أجزائِها الصلصالية…

… هكذا يتكررُ هذا المشهدُ المجوَّفُ أكثرَ مِنْ مرةٍ؛

وأشدُّ منه غموضًا

           تفاصيلهُ التي تنامُ مُغطاةً بلحافٍ قطنيٍّ سمينٍ ذي لونٍ فاقع…

 

 

 

… في الصورِ الملطخةِ بذاكرةِ العبثِ أدخلُ

وأخرجُ مِنْ تُرُنْجِ البيوتِ الريفيّةِ كطفولةٍ بهيئةِ دموعٍ تنحدرُ

بهيئةِ صُراخٍ يتفشَّى في أعماقها…

 

***

أبوابُ الموتِ مُشرَعةٌ إذاً

فوقَ هذي الظهيرةِ التي تتخثرُ على الرمالِ، تتعرّى على الرمالِ

كمومسٍ ملأى بالنمشِ تُغري أنظارَ المارّةِ والمُتسكعين.

أبوابُ الموتِ مُشرعةٌ

على هذه التخومِ المسافرةِ إلى محاذاةِ سُرّةِ المجرّةِ…

 

أربعٌ وعشرونَ ساعةً،

                         شبابيكُ الحجزِ مفتوحةٌ أيضاً

لركوبِ قوافلِ النهاياتِ في هذه الرمالِ المحجوبةِ الاسمِ

بسرعةٍ تبدو قياسيةً أكثرَ مما تتوقعُ النهايةُ نفسُها

بأجنحةِ ريحٍ فوضويةٍ أشدَّ عربدةً مما تدرزهُ النهاياتُ نفسُها.

يا لهذهِ المحاجِّ التي تتوضأ باليأسِ!

كمْ أنتِ مليئةٌ بصدأِ الشموسِ المتآكلة!

يا التي تؤسطرُ الهشيمَ وتجعلُهُ كمثلِ هذهِ الجراحِ النابتةِ والمُثمرةِ

على امتدادِ الصفحاتِ بينَ الحَجَرِ وأخيهِ الحجر

بينَ الجدارِ والجدارِ الآخر

بينَ الليلِ والليلِ الموازي لهُ، المُحاذي له والمبتعدُ عنه/…

  

أيتها الهياكلُ القادرةُ على سحقِ حضاراتٍ بأسرها!

اسحقيني إنْ قدرتِ، قطعّيني إربًا إربًا

بعدَ أنْ أتخوزقَ مِنْ فتحةِ الشرجِ كبابليٍّ في طامورةِ “داريوسِ الأول”

اسحقيني إنْ قدرتِ، يا التي تُرنّحُ الكلماتِ بلعنةِ الاقتداء

أنا لستُ كلمةً عاديةً،

أنا طَعْمُ الأبديةِ محفورًا على شكلِ طاووسٍ

مغامرةُ الأبديةِ في معطفِ كونٍ يتوهجُ 

 

 

 

 

 ثُمَّ يجيءُ اللفحُ الحارُّ مِنْ أعلى نقطةٍ في الصيفِ

يجيءُ بثلجٍ ساخنٍ وحارقٍ وأليمٍ.

وها، تلكَ التعاريشُ لا تقوى على مُجاراةِ الزيزان

 تلكَ البيوتُ الآيلةُ للسقوطِ لا تشعرُ إلا بوخزٍ غامضٍ

كحفيفِ الأفعى.

تلكَ العشوائياتُ تستيقظُ شعوبًا مِنَ الكائناتِ الخرافية

تكادُ تصطبغُ بالشرّ

وحينَ جمرُ الإسرافِ يبدأُ بالتململِ تحتَ رمادِ الخطيئة

عبرَ المجاري والأزقةِ الضيقةِ التي يغمرُها الاِكْفهرارُ

حينَ يبدأُ العجيجُ الكبيرُ،

                              المعبّرُ عنْ نضيجةِ الأشلاء

عندَ أعلى نقطةٍ مِنَ الصيفِ المُكفَّنِ ببخارٍ عظيمٍ

حينَ يرتعدُ جِلدُ العواصمِ وترفرفُ أشفارُها  

يجيءُ النشيدُ المرعبُ، النشيدُ الطاغي كسيفٍ هائلٍ يعلو ويُشهرُ

 في كبدِ السماءِ وعندَ أعلى نقطةٍ مِنَ الأرض…

هناك، في خُطىً محمومةٍ وغيرِ متوقعةٍ أبدًا

تجتمعُ حشراتُ اللهِ حوتًا أسطوريًا مُكتملًا يفترسُ الأساطيرَ كلَّها

 أسمعُ طقطقةَ عظامٍ في ثنايا أسنانهِ، في كرشهِ المَنهومِ

 أسمعُ غرغرةَ أفكارٍ غريبةٍ بينَ فمهِ وإستهِ

آهٍ! إنني أرى أوثانًا طِفليةً تُفرمُ داخلَ مُصرانِه الأعمى

…   … …

 

وها، في رخاوةِ المدى أرى عذارايَ الستَّ

في هشاشةٍ يظهرونَ وينطفئونَ بينَ أصابعيَ الوحيدة

بينَ أشداقيَ وصدريَ 

يتجلّونَ، نهرًا مِنْ ضَوْعٍ، مِنْ مَسيسٍ يتدفقُ وينحسرُ

مِنْ نبيذٍ يتأججُ،

يتأججُ بِحريّةٍ نافرةٍ كمغامرةِ الليْلَكِ في أنْ يُشيعَ نفسَهُ

أتلمسُ حبيباتيَ الستَّ في شفافيّةِ المدى

وأمزجُ حقيقتيْ في أرواحِهنَّ واحدةً واحدةً   

هكذا في المدى اللُهاثيِّ…

 على هيئة سِنَّوْرةٍ برأسِ باندا متوسطِ الحجمِ

تأتيني الحبيبةُ الأولى

أمّا الثانية فلها رأسُ غزالةٍ أبيض وجسمُ هِرّةٍ كسول

والثالثة سِنَّوْرةٌ كاملةٌ

تدخلُ إلى بطني وتخرجُ مِن جيبي أكثرَ مِنْ مرةٍ

 والرابعةُ فَهْدَةٌ ممتلئةٌ ذاتُ أكتافٍ بارزةٍ وأزنادٍ عريضة

 

وأما الخامسة تأتي في شكلِ سُمَانَاةٍ مرةً

ومرةً أخرى في شكلِ يَمامةٍ

تنتخبُ هديلَها الفضيَّ مِنْ هندسةِ البحرِ الذي يعيشُ في حنجرتها

والسادسةُ آهٍ السادسة!

مُهرةٌ عربيةٌ،يستحمُّ بها بياضُ الصفحاتِ،

وينتشي في صهيلِها جسدُ الموسيقى الأكثرُ خِفّةً مِنَ الماء

طرباً يتراقصُ مِنْ أقاصي المغربِ الساحرِ إلى شرودِ المَشْرقِ

إنها تعدو على مساحاتِ القلبِ

في أعماقِ القلبِ الوجيعِ هناكَ تتصاهلُ وتستريح

***

أدخلُ وحيداً أمامَ غابةٍ مُكفهرةٍ مديدة

غابةٍ مِنَ التعابيرِ المُدلاةِ مِنْ أرجلِها

أو مِنْ نهودهِا

غابةٍ مِنَ المفرداتِ اليتيمةِ الخائفة

مِنَ المفرداتِ المصلوبةِ على ألواحِ التاريخِ

مِنَ التراكيبِ-الجثثِ المسحولةِ فوقَ أسفلتِ العالمِ الممغنطِ

مِنَ الألفاظِ شبهِ المدفونةِ في مقابرِها الجماعية

..

وثمةَ رؤوسٌ مِنَ الكلماتِ اليافعةِ معلقةٌ في سَماءِ الغابةِ

كأسماكٍ جافّةٍ   …

أتبصّرُ غابةً- ملايينَ القطْعانِ مِنَ الكَلِمِ تتطاحنُ

تمزِّقُ بعضُها بعضًا وهيَ عاريةٌ أمامَ الزمنِ الجبَّار المليءِ

بتساقطٍ وئيدٍ لأنسامِ الليل

في الخلفيةِ التي تبدو مُواربةً داخلَ وخارجَ

هذه الغابةِ الشبيهةِ بالعراء… 

…وبغتةً، تسقطُ يقظتيَ المُضناةُ في هاويةِ الظلامِ المُطلقِ

كحجرٍ يسقطُ إلى أعماقِ بئرٍ صمَّاء بلا قرار

   … …  …

الرؤيةُ لا تستقرُّ على حالٍ

والصورةُ دامِجةٌ شديدةُ الحُلكةِ مُشبّعةٌ بالغبارِ الغليظ

تتقطّعُ الأصواتُ

                  والمناظرُ والوجوهُ حتّى شفيرِ التفتّتِ

 حتّى أنَّ ذرّاتِ الهواءِ تكادُ أنْ تَخْرعَ

والزمانُ لا هو واقفٌ ولا هو يجري

أنَّى أتجهُ وأنظرُ!

تكادُ الجهاتُ أنْ تكونَ مُنحنياتٍ مغلقةً

والظلالُ هامدةً تتحجّرُ في هذه اللُجّةِ الجهنمية/…

خليطٌ حُوشيٌّ زائغٌ لا يكادُ يُعرفُ كنههُ !

أهيَ دَرَكٌ في ارتحالِ الريحِ نحوَ سَرمديّةٍ تُشبهُ النُشور؟ 

أم هي العواصفُ الممتدةُ التي لا تنقرضُ ولا تتلاشى،

كمثلِ كَهْرمانٍ أصفرٍ شفيفٍ يطوّقُ عنقَ طفلةٍ يمانية؟   

الرؤيةُ مُتغبّشةٌ داخلَ هذا الرواقِ الدائريّ

لكنني بعدَ تلكّؤٍ أكادُ أميّزُ صوتًا رَجراجًا

لا يُدرى أهو صادرٌ مِنَ الداخل أم مِنَ الخارج؟

يتبدّى، لكنْ كغربالٍ ذي ثقوبٍ دقيقة

ربّما يكونُ شبحُ الطفولةِ المنحوسُ مُنيخًا بكلكلهِ هناك

… لعلّهُ صريخُ يتامى مكوّمينَ عبثًا

في الشوارعِ

في الخيامِ المنسوجةِ بخيوطٍ مِنَ الدمعِ

في كلَّ زاويةٍ ثمةَ خسفٌ وصياحٌ كالرعدِ

وَعْوعةٌ ليسَ لها فاصلٌ أو حَدٌّ

صِبيانٌ مغلولةٌ أيديهمْ وأعناقُهم وأرجلُهم وكذلك أحلامُهمْ بأصفادٍ مُستعرةٍ مِنَ خساسةِ وخُنوعِ المُصفِّدينَ…     

طفولاتٌ تنتسبُ إلى نادي الشيخوخةِ مِنْ أوّلِ يومٍ في المخاض

 مُرْدٌ يتضمخونَ بالأعناقِ الرَخْصةِ، المتدفقةِ بالدمِ الرطيبِ كزهرِالأوركيدا  

ثُمَّ يؤدّونَ صلاةَ الضُحى في خشوعٍ

 بعدَ ساعةٍ أوْ أكثر…

بعدَ أنْ تتخدرَ المساحاتُ، مساحاتُ المُهجةِ الرقراقةُبالأنداءِ المَكْروبة

أتيهُ وسطَ دُخانٍ يشبهُ حديقةً مهجورةً

وكأنّي أنا الدخانُ المُعضِلُ، السابحُ وراءَ اندلاسهِ الثقيل  

 ألتفُّ حولَ نفسي مَرّةً مَرّتينِ ثلاثًا

ما يزالُ المكانُ نفسهُ وأنا أنا

ما يزالُ الدُخانُ يرسمُ شكلَ حاضرةٍ مدفونةٍ وسط رمالِ الهِجراتِ المتتالية

 

 

 

ما يزالُ “جنكيزخان” يتناسخُ كعَصَوياتٍ فوقَ ترابِ الشرق

أكْوامًا مُتراصةً تحتها أكوامٌ…

في كلِّ لحظةٍ تنبثقُ أجيالٌ مِنْ خَليّةِ الجدِّ الأولى

لكنَّ كلَّ جيلٍ يولدُ يحملُ شرائحَهُ السلكونية الأشدَّ مَواتاً

يرفعُ فوقَ رأسهِ سقيفةً ذات أفواهٍ أكثرَ تِلقاماً وشراهةً، تتناسلُ هي الأخرى

 وفي كلِّ فمٍ سلالاتٌ، قبائلُ

لكلِّ قبيلةٍ مائدةٌ شبكيةٌ غيرُ متناهيةٍ مِنَ البوادي والرقيقِ

والخِصْيانِ والأطُوم  

مائدةُ عشاءٍ دسيمةٌ مِنْ لحمِ الأباعيرِ وفروجِ وأثداءِ وأفخاذِ المواميسِ وألسنةِ الساقطينَ المنقوعةِ في مواعينِ الدنسِ والكدَرِ…

وسطَ الدُخانِ، مثلَ أيِّ شبحٍ غريبٍ

ألتفُّ حولَ نفسي

مرةً مرتينَ ثلاثًا:

أينَ البدايةُ وأينَ النهايةُ في لُغزِ هذا المكان،    

في وحشيّةِ هذا المكان؟…

 مثلَ أيِّ شبحٍ مَنفيٍّ وشريدٍ

ألعنُ وقتيْ ومكانيَ السائرَيْنِ كقطيعيْ مَعْزٍ:

شاخصةٌ أمامي أرواحٌ متناثرةٌ في موائدِ اللهِ

والفوضى ترقصُ عاريةً

                       قُدّامَ هذا الدخانِ الجائعِ

ترقصُ مُحنّاةً بالفتنةِ في مرآةِ القيامةِ قبلَ أنْ تتشظى..  

***

الآنَ وبعدَ أنْ تنهشَ امرأةٌ ما بقايا الليلِ في جوفي     

أرى إلى المطرِ يتساقطُ

ينسكبُ غزيرًا مِنْ غيومٍ، لا لونَ لها، في حجم قارَّةٍ بأسرها

إنهُ المطرُ

تذرفهُ الغيومُ الخفيّةُ قطرةً قطرةً

تبتني من خلالهِ مَنزلاً مَتكاملَ الأركانِ

هناك في الزاوية

 على اليسارِ حُجرةٌ للاسترخاءِ

والنومِ وحيدًا في غَمْرةِ فَناءٍ مُغريةٍ وفاتنة   

وهناك على اليمينِ حجرةٌ لمضاجعةِ الأفكارِ الجذّابةِ والأفكار الدميمة

وفي وسط المنزل رُدهةٌ ذاتُ جدارٍ رُخاميٍّ

هي التي تحتضنُ قَعداتِ العائلةِ والأصدقاءِ المقربينَ

أحاديثيَ المُملة معَ الفلسفةِ والنجوم

مُساجلاتيَ معَ التاريخِ ومعَ الله

صمتيَ الطويل الذي يثرثرُ دائمًا ويمعنُ في مضايقتي…       

هناك أمامَ الردهةِ صالةٌ تستقبلُ كلَّ الضيوفِ

القادمينَ مِنْ مسالكِ النسيانِ المُسترسلةِ كخدودِ مَلاكٍ

كلَّ مدينةٍ أيقظتْ تحتَ رمادِ النفسِ جمرةَ الاِشتهاء   

كلَّ حبيبةٍ رفضَتْني أو رفضتُها

كلَّ فُرصةٍ نكَّلتْ بها مطرقةُ الحظِّ الحاقد

أوْ أزهقتْ روحَها الطباعُ تحتَ ظلالِ سيوفِها الباترة/…

الآنَ وبعدَ أنْ تبتلعَ امرأةٌ ما بقايا النجومِ في جوفي 

أرمقُ المطرَ وهو يسحُّ فوقَ رأسي

كأنّهُ السيّابُ بكاملِ طيْشهِ ينهمرُ على سَحنة وجهي 

 يتصبّبُ غزيرًا بينَ يديَّ

 مِنْ أعلى اليافوخِ إلى أخمصِ القدمين

يغمسُ فروةَ شَعري في مَعموديةِ الهُطولِ الإلهيِّة  

ينسكبُ في هِياجٍ، تمامًا كالسيّابِ يهذرُ:

(ما مرَّ عامٌ والعراقُ ليس فيه جوعْ

مطرْ … مطرْ … مطرْ…

… وفي العراقِ ألفُ أفعى تشربُ الرحيقْ …)

ويردّدُ صابًّا جبروتَ حنينهِ بأكملهِ:

(بلا انتهاءٍ- كالدمِ المُراقِ، كالجياعْ،

كالحبِّ، كالأطْفالِ، كالموتى – هو المطرْ)

 

يُتمتمُ  كمثلِ هذا الماءِ الوافرِ

الذي يُصلِّي مِنْ أجلنا صلاةً جديدةً

صلاةً أشدَّ عُلوّاً مِنَ الخليقةِ ذاتِها

ومِنَ الله بذاتهِ…

***

وبعدَ أنْ ينسحبَ المطرُ السيّابيُّ مُجرجرًا أطمارَهُ الشاتية

كدرويشٍ عظيمِ الشأنِ لا أحدٌ يبجّلهُ

لا أحدٌ يأبهُ لهُ،

تتحجبُ السماءُ بالغمائمِ السميكة الجِلدِ

تلبسُها “بُوشيةً” كأنها تُخفي بشاعةً ما تمويهًا    

وتحشو جسدَها بشحمِ البلاستيكِ القابلِ للتدوير

بشكليّةٍ مُلتحمةٍ لا تبدو مُصطَنعةً …

… إنها السماءُ تحشدُ غمائمَها السُخْمَ

كجوقاتٍ تتنافرُ بَيْنا هي تجتمعُ

تُكسّرُ التئامَ مرايا الأفلاكِ بَيْنا هي تُغنِّي وتُهبّشُ في الهواءَ الخاوي…

تحشدُها مثلَ مُطربينَ مَنهوكيِّ الحناجرِ

يتهوّعونَ أغنياتِهم المُمتقعةَ داخلَ صالةٍ ضيّقة.

 

هكذا تزدحمُ جمهرةُ الغيمِ بلا مطرٍ

ولا حتّى فُضلةٍ مِنْ عصيرِ جوهرها

(إنْ كان ثمةَ جوهرٌ)

يمرّونَ بالقيرواناتِ في الصحارى، فلا يقتربونَ

يمرّونَ بالسَبخاتِ العملاقةِ، فيتماهونَ بها

لا يُهزمونَ ولا ينتصرونَ؛ لكنهم كاملو أرومةٍ أبدًا..

غمائمُ عُجَّزٌ ضالّةٌ على أرصفةِ السماء 

وللأثداءِ في صدورهمْ عزيفُ رَملٍ مُتعبٍ

وللألسنةِ في أفواههمْ صلصلةُ رعدٍ لا قَطْرَ فيه…

 ولهمْ أيضًا ذُبابُ النوازلِ وقرونُ استشعارِها…

***

لا أبقى في مكاني هنا

لا أبقى في مكانٍ ما هنا أو هنالكَ، أيِّما مكانٍ.

أنا شبحٌ مُتحوّلٌ طائشٌ راحلٌ أبدًا

لا أرضَ تحتي ولا نجومَ متبلورةٌ فوقي

أنا المحيِّرُ أرخبيلاتِ البرازخِ التي تقيّأتْها هيدرا الكونِ

لا أنفصلُ عنْ طباعِ السُّدُم:

بقدرِ ما أتلولبُ، تتسعُ غرائزُ التخليقِ في أريحيّة الفضاء

بقدرِ ما أموتُ، تعانقني مليونُ سنبلةٍ باذخةٍ

في أكنافِ موتي في كلِّ مرةٍ.

هكذا لا أنصرفُ عنْ مجابهةِ الوقتِ المُختبَلِ

بكلِّ أسرارهِ وأسوارهِ وذبائحهِ المعلّقةِ مِنْ أطرافِها

وأجهرُ أمامَ هذا المعقلِ الذي بلا أبوابٍ:

هذهِ ليستْ ديباجةٌ مُمزقةٌ

إنّها سِنديانةٌ قرمزيةٌ لا يُمكنُ اقتلاعُها

 

تَشْبكُ أغصانَها في استغراقٍ بلا نهايةٍ

إنها تمتدُّ وتتشبَّكُ كخيوطٍ لا تندرسُ

ولا ينفدُ غزلُها…

تتشقلبُ في استغراقِ راقصةِ “باليه”

وفي رشاقةِ أقدامِها تُغنِّجُ الأرضَ والعوالمَ 

وخليقٌ بهذهِ أنْ تُخلخلَ قراميدَ البطولاتِ

أنْ تجعلَ شروخَ الحكايةِ مفتوحةً

كشهوةٍ تُهتصرُ في أفواهِ الصباح

خليقٌ بها أنْ تُحطّمَ موازينَ الألقابِ الخزفيةَ

المركوزةَ في أدراجِ المسارح

أنْ تُشيِّدَ مدائنَ نورانيّةً لمْ نرَها..

أنا نبيٌّ غريبٌ، أوميءُ إليكم

وإلى مَهاويكمُ النازفةِ التي ما تفتأ تتدحرجُ

وتحفرُ محاجرَ أعينكم.

أنا نبيٌّ مُحبٌّ يأتي على هيئةِ شبحٍ،

أرسلني ربُّ البياضِ العظيم إليكم…

… أشيرُ إلى دياميسكم الشاخصةِ أمامي

عنقودًا مِنَ العنبِ الأسود.

أشيرُ إلى طوافينكم المخلوجة

أراها تتوضأُ بعيدًا في البحائرِ الملعونة

لتؤدي طقوسَ الفجيعةِ كاملةً

وكأنّها لا تعلمُ مِنْ أينَ تبدأُ

تنحدرُ مِنْ خريطةٍ سردابيّةٍ إلى أخرى

وتتوانى لا تعلمُ مِنْ أينَ تبدأُ

كمثلِ مَنْ يَحسبُ ثاراتهِ قُبيلَ الانتقام…

 

ها أنا نبيٌّ جديدٌ، وسفينتي كونية ٌربمّا لا ترونها

إنها هنا وهناكَ مفتوحةٌ أبدًا

إلى كلِّ حَصاةٍ في مجاهلِ العالم

إلى كلِّ الأنفاسِ التي تتفقعُ على كثيبِ الأبديّة

إلى كلِّ العدمِ الذي يتفتقُ

إنها هنا وهناكَ مفتوحةٌ  كدائرةِ جُرحٍ مفتوحٍ على جسدِ القلبِ

أوميءُ إليكم

أن افلتوا مِنْ المخالب التي هي إبرٌ ضخمةٌ 

تصقلها تلكمُ العواصفُ البغيضة

وأبحِروا معي

إلى الوجودِ المُعافى مِنْ سلالاتهِ النهائيّة

المُعافى مِنْ وسوستهِ، مِنْ كونهِ وجودًا-عدمًا

إلى الهواءِ المُقرقرِ كالبجعاتِ

الضاحكِ الذي يكادُ أنْ يمتزجَ بزنجبيلِ البسائطِ ورمّانها

… … …

هكذا أغزلُ سُجّادَ الحياةِ اللانهائية   

 وهذه ليستْ سوى فاتحةِ التعنقد.

أنا نبيٌّ

وكتابي ثقيلٌ عليكم

وهذه ليستْ سوى إضبارةٍ واحدةٍ مِنْ آياتهِ

ليستْ سوى نأمةٍ مُعذبَّةٍ مِنْ مِدادهِ…

 

 لا تبحثوا عنّي في أيِّ مكانٍ

أنا هنا

وقلاعي رابضةٌ فوقَ تلالِ الأوراق 

وسلطاني ينبسطُ بلا سيفٍ ولا جنود

ومملكتي نشوانةٌ أبدًا

زَرَجونُها يؤرجحُ سقوفَ المشيئاتِ وأَسطحَها

ويجعل أوساطَها تترنّحُ مِنْ شدّة السُّكْر..

لا ّتفتشوا في أيّما مكانٍ

أنا هنا

أتخللُّ كالرعشةِ المدرّبةِ أجسادَكم

واجتازُ أخاديدَ النهاياتِ وأنبتُ في قلوبكم كشجرةِ التابوبيا.

الآنَ

ها أنا أفتتحُ سماءَ المعجزاتِ المنحتني إياها الأرضُ

وما عليها

وأخرجُ مِنْ قياماتكمْ واحدةً واحدةً

وأُوصدُ أبوابَها..أوصدُ أبوابَها..

 

 شعر: عبدالله زهير

اللوحة الفنية( غيرنيكا،Guernica) : هي جدارية للفنان  الكبير بابلو بيكاسو استوحاها من قصف غورينيكا حين قامت طائرات حربية إيطالية وألمانية مساندةً لقوات القوميين الإسبان بقصف المدينة في 26إبريل 1937، خلال الحرب الأهلية الإسبانية…